سعيد يجتمع بعدد من الوزراء ويؤكد على اهمية اصلاح التربية والتعليم    سلطات مالي تعلن تحرير 4 سائقي شاحنات مغاربة    من مسبح المرسى الى سماء العالمية ..أحمد الجوادي قاهر المستحيل    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    دراسة.. مواد غذائية بسيطة تقلل خطر السرطان بنسبة تقارب 60%    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    سفنه تنطلق من تونس يوم 4 سبتمبر .. 6 آلاف مشارك في أسطول الصمود إلى غزّة    عاجل/ واشنطن تعتزم فرض شرط جديد للحصول على تأشيرة عمل أو سياحة..    أخبار الحكومة    بلاغ رسمي للملعب التونسي    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    النادي الصفاقسي يعلن رسميا تعاقده مع علي معلول الى غاية 2028    الدكاترة المعطلون عن العمل: ضرورة توفير خطط انتداب ب5 آلاف خطة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    القصرين: العثور على جثة كهل تحمل آثار عنف    المنستير: تظاهرة "فنون العرائس على شاطئ روسبينا" في دورتها الثانية بداية من 15 أوت 2025    مهرجان العروسة: جمهور غاضب وهشام سلام يوضح    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    التعاون بين تونس وإيطاليا : طاقة التفاوض وفوائض الطاقة    بطولة افريقيا للشبان لكرة الطاولة بنيجيريا: المنتخب التونسي يختتم مشاركته بحصد 8 ميداليات منها واحدة ذهبية    القصرين: سواق التاكسي الفردي يتوجهون نحو العاصمة سيرًا على الأقدام تعبيرا عن رفضهم للقائمة الأولية للمتحصلين على رخصة "تاكسي فردي"    مهرجان نابل الدولي 2025... تكرار بلا روح والتجديد غائب.    رونالدو يتحوّل إلى صانع القرار في النصر... ويُطالب بصفقة مفاجئة    488 تدخل للحماية المدنية في 24 ساعة.. والحرائق ما وقفتش!    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    عاجل: ''تيك توك'' تحذف أكثر من 16.5 مليون فيديو ودول عربية في الصدارة    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوانسة حايرين والتجار زادا مترددين على الصولد السنة!    عاجل: الاتحاد العام التونسي للشغل يردّ على تهديدات الحكومة ويؤكّد حقّ الإضراب    الدلاع راهو مظلوم: شنوة الحقيقة اللي ما تعرفهاش على علاقة الدلاع بالصغار؟    في بالك ...الكمون دواء لبرشا أمرض ؟    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    نواب ديمقراطيون يحثون ترامب على الاعتراف بدولة فلسطين..#خبر_عاجل    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد التونسي عشية الاستحقاق الانتخابي
نشر في حقائق أون لاين يوم 06 - 10 - 2014

تستعد تونس لتنظيم أول انتخابات بعد ثورة 14 يناير 2011، من خلال إجراء الانتخابات البرلمانية في 26 أكتوبر تشرين الأول، على أن تجرى الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 23 نوفمبر تشرين الثاني. فكيف يبدوا المشهد عشية هذا الاستحقاق الانتخابي الهام؟ فأي مستقبل للتعايش بين الإسلاميين والعلمانيين؟ وماذا عن العودة القوية لرموز النظام الذي قامت عليه ثورة 14 يناير 2011؟
يتوقع جل المتابعين للحراك السياسي والاجتماعي في تونس، أن يكون الاستحقاق الانتخابي القادم، لحظة فارقة في مسار الانتقال الديمقراطي. هذا البلد الصغير جغرافيا، لكنه مهم في موقعه الجيو-سياسي وفي تجرته التحديثية العميقة. وهو الذي انطلق منه ما أصبح يعرف ب "الربيع العربي".
تجري الانتخابات القادمة، في ظل مشهد سياسي يغلب عليه حالة التشتت الحزبي. خاصة في صفوف "التيار الديمقراطي". ما نجم عنه كثرة المرشحين للبرلمان، الذي قدر ب 1326 قائمة، كما تقدم 70 مترشحا للانتخابات الرئاسة، قبلت الهيئة منهم 27 مترشحا بصفة رسمية، ورفضت البقية. زيادة على تنامي الخوف من إمكانية حصول عمليات إرهابية قد تربك العملية الانتخابية أو قد تصل حد تعطيلها. من المظاهر الأخرى المهمة التي ترافق هذا الحدث الانتخابي، الرجوع القوى لرموز النظام السابق، الذين يطلق عليهم في تونس " الأزلام". بعد أن تقدموا ضمن قائمات مؤطرة من قبل ثلاثة أحزاب دستورية كبرى /1/، كما ترشح 6 وزراء عملوا مع الرئيس الأسبق بن علي للرئاسة. مقابل تراجع "القوى" الثورية وكذلك الإسلامية، الذي صاحبه حصول "تطبيع" أو "قابلية" شعبية لعودة رموز النظام الذي قامت عليه الثورة.
تقدم مسار الانتقال الديمقراطي
برغم كل الصعوبات التي واجهت الانتقال الديمقراطي، التي برزت من خلال تمطيط المرحلة الانتقالية، التي استمرت ثلاثة سنوات ونصف. فقد تمكنت الطبقة السياسية من تجاوز خلافاتها، والحفاظ أساسا على سلمية الانتقال الديمقراطي. من خلال التوصل لصياغة دستور مدني، المصادقة على القوانين المنظمة للحياة السياسية، أي الانتخابات والاستفتاءات، وانتخاب هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات، من أجل ضمان شفافيتها. بالإضافة إلى توفق الطبقة السياسية على التعاقد والالتزام بتحييد المؤسسة العسكرية، وهي نقطة مضيئة في هذه المرحلة وفي التجربة السياسية التونسية الحديثة منذ الاستقلال، حيث تم تحييد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية.
كما استطاعت النخب الديمقراطية، الناشطة في الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني. بواسطة النضال السياسي والاحتجاج السلمي، إيقاف "طموحات" ومخططات الإسلاميين في "أخونة" المجتمع والهيمنة على مؤسسات الدولة. اذ أنهم سعوا بعد فوزهم في انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 وتبوأهم مهمة حكم البلاد، إلى "التمكين" لمشروعهم، في بيئة مجتمعية وثقافية طاردة لهم. حيث أنها استطاعت الصمود في وجههم في مرحلة أولى، ثم إزاحتهم سلميا من على السلطة في مرحلة ثانية. كما كشفت عن فشلهم السياسي، وسقوطهم الأخلاقي، وهم الآن يواجهون برفض اجتماعي غير مسبوق في تاريخهم. غير أن هذه الوحدة في مواجهة "المشروع الإخواني"، خبت وتراجعت بعد إسقاط حكم النهضة، بل أنها تصدعت برغم أن الخطر الأصولي ما زال مستمرا.
تشتت التيار الديمقراطي
برز من خلال تشكيل القائمات للانتخابات البرلمانية، وجود حرص من قبل "الأحزاب الكبيرة"، على التقدم للانتخابات وفق قائمات "حزبية"، وبالتالي انفضت كل التحالفات السابقة، التي روج لها في البداية على أنها تحالفات سياسية وانتخابية. من ذلك أن تحالف "الاتحاد من أجل تونس"، الذي كان يضم مجموعة من الأحزاب الديمقراطية بزعامة حزب "نداء تونس"، لم يصمد أمام انتصار الخيارات الحزبية، على العمل الجبهوي. وهو ما أحدث شرخا في صفوف التيار الديمقراطي، الذي توحد ضد الإسلاميين وأسقط حكمهم.
وكان من المرشح أن يتحول الى "تحالف انتخابي" من خلال التقدم بقائمات واحدة ومشتركة، لكن هذا لم يحصل بعد تغليب "المصلحة الحزبية" على الدفاع عن المشروع المجتمعي المشترك. وكانت من نتائجه المباشرة، تقدم أحزاب العائلة الديمقراطية، بصفة مشتتة لا يستبعد أن يكون لها تأثير كبير في التشويش على اختيارات الناخبين. وهو السيناريو الذي عملت عليه حركة النهضة الإسلامية، خاصة وأنها أكبر مستفيد من وضع التشتت والتذرية في صفوف الديمقراطيين، نظرا لكونها تحوز على "كتلة" انتخابية ثابتة.
بررت الأحزاب الديمقراطية، مشاركتها بصفة حزبية منفردة، بطبيعة القانون الانتخابي الذي يعتمد التصويت على القائمات، وهي كلمة حق أريد بها باطل كما يقال. في ظل هذا الوضع، الذي تهيمن عليه الأحزاب، نلاحظ أنها تعطي الأولوية للانقضاض على السلطة، وهو دورها ووظيفتها الطبيعية، بل أنه شرعي في الحياة السياسية العادية. لكنه يصبح في الأوضاع الانتقالية، مثل التي تمر بها تونس، التي تتهددها المخاطر من كل صوب، بمثابة "انتحار سياسي" وترجمة لانعدام الثقافية السياسية الواقعية.
في ظل هذا المشهد الذي قمنا بتشريحه، نلاحظ أن هناك اتجاه لإعادة إنتاج حالة الاستقطاب السياسي، التي برزت بعد الثورة بين الإسلاميين من جهة، والقوى الديمقراطية المتحالفة مع التيار الدستوري من جهة ثانية. أي المتحالفة مع بقايا الحزب الدستوري، الذي حكم خلال فترة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذي عادت رموزه لتصدر المشهد السياسي من جديد.
الثابت الآن، أنه "رغم أن الحياة السياسية في تونس قد عرفت تحالفات ناجحة في مراحل وظروف مختلفة، فإن محاولات التحالف والائتلاف بعد الثورة لم تتطور وكانت محدودة في انتخابات المجلس التأسيسي وفي هذه الانتخابات أيضًا رغم الدعوات والتنظيرات التي اعتبرت "التحالفات مصيرية لتفادي تغول حركة النهضة"، غير أن ذلك لم يتحقق في الواقع ولم تنجح الأطراف السياسية المعارضة للترويكا وللنهضة أساسًا في عقد تحالفات إلا جزئيًا؛ لذلك ظل عدد القوائم الائتلافية التي ستشارك في هذه الانتخابات محدودًا ووصل إلى 140 قائمة، أي بنسبة 11.49%." /2/.
بناءا على المقدمات التي أوردناها، خاصة كثرة المترشحين للبرلمان، سيجعل تركيبة المجلس فسيفسائية، ويعسر عملية التوافق على شكل وتركيبة الحكومة القادمة. وبهذا فان المشهد السياسي بعد انتخابات أكتوبر القادم، يتوقع أنه لن يكون مختلفا كثيرا عن الذي سبقه، نعني الذي جاءت به نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011. والذي انتهي بفشل ذريع في إدارة أوضاع بلد يمر بمرحلة استثنائية، بسبب حرص الأحزاب الفائزة حينها على التفرد بالسلطة، من خلال التعامل مع الأوضاع المضطربة والغير مستقرة وفق منطق "الأغلبية" و "الأقلية"، كما هو الحال في الديمقراطيات المستقرة.
إضافة إلى أنه مشهد مرشح لمزيد تنامي الصراع الإيديولوجي بين "الإسلاميين" و"العلمانيين". برزت من خلال الحديث عن وجود صراع بين مشاريع مجتمعية وليس بين برامج انتخابية. كما أن هناك تأكيد من الاستطلاعات الحالية، على وجود فرضية تشير لوجود كتلة إسلامية وازنة بل ربما معطلة في المجلس النيابي القادم. وهي حالة نجم عنها في السابق، حصول انقسام غير مسبوق في تاريخ بلد مثل تونس، معروف بانسجامه الاثني والثقافي وحتى الطبيعي. ظاهرة كادت تعصف بكل المكتسبات التي تحققت منذ الحركة الإصلاحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي تجذرت خلال مرحلة الدولة الوطنية، بقيادة رائد التحديث والعصرنة الرئيس الحبيب بورقيبة. مكاسب جعلت من تونس دولة حديثة، ذات تشريعات تقدمية، أسست لنمط مجتمعي مختلف كثيرا عن غيره في البيئة العربية والإسلامية.
الإسلاميون والبحث عن عذرية جديدة
برغم خروجهم المذل من الحكم، فان الإسلاميين ممثلون في حزب حركة "النهضة"، عملوا جاهدين على تسويق فشلهم في الحكم وخروجهم منه، على أنه "تنازل لمصلحة تونس"، مثلما أكد راشد الغنوشي في أكثر من مناسبة. كل ذلك من أجل إعادة التموقع في المشهد السياسي والاجتماعي من جديد. وقد سمحت لهم الأغلبية النيابية في المجلس التأسيسي، بالسيطرة على مفاصل الحياة السياسية.
سواء عبر التحكم في القرار التنفيذي لحكومة الكفاءات المستقلة، التي بقت خاضعة لهيمنة المجلس، القادر متى شاء على سحب الثقة منها. أو من خلال سن القوانين الهامة التي ستحدد طبيعة الخارطة السياسية بعد الانتخابات. خاصة من خلال القانون الانتخابي، وكذلك تركيبة الهيئة العليا المستقلة التي ستشرف على الانتخابات. هذا ما يفسر خبايا خطاب الغنوشي لأنصاره بعد الخروج من رئاسة الحكومة. عندما قال بكل ثقة أن حركته "خرجت من الحكومة لكنها لم تخرج من الحكم"/3/.
كما حرص مرشد النهضة، راشد الغنوشي على "تحقيق "غنيمة" سياسية من وراء "التخلي طواعية" عن السلطة، خصوصا وأن النهضة نجحت في "الترويج" أو "التسويق" لهذا الخروج السلمي من الحكم في الداخل والخارج. هذا ما يفسر أنه أصبح محل "إشادة" خاصة من الغرب، سواء في المستوى الرسمي، أو لدى مراكز البحوث القريبة أو المؤثرة على صانع القرار. ما سمح بظهور خطاب يطالب بإدماج "النهضة" في الحياة السياسية التونسية. خصوصا و"أنها بينت مرونة في التعاطي مع المتغيرات والضغوطات الداخلية والخارجية، ولها قراءة براغماتية لتطورات الأحداث وموقع النهضة فيها" /4/.
على الأرض مكن الخروج من الحكم، من الانصراف إلى إعادة "ترميم" صورة الحركة في المجتمع، في مسعى غايته الأساسية الاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية. وهذا ما نجحت فيه الحركة، التي تعطيها كل عمليات سبر الآراء إما المركز الأول أو الثاني في الانتخابات المقبلة. كما أبدي خصومها – حتى الإيديولوجيين- رغبة في إمكانية التعاطي معها بعد الانتخابات. وان كان شريطة التخلص من كل "انتماء إخواني". وفي هذا السياق لا يستبعد أن تفرض نتيجة الاستحقاق الانتخابي القادم، وجود تسوية سياسية بين الفرقاء، يكون ل "النهضة" موقع قدم فيها. وبالتالي ضمان إدماجها في الحياة السياسية، برغم تراجع توهج ظاهرة الإسلام السياسي".
ما يدعم مثل هذه الفرضية، القائمة على التعايش بين الاسلاميين والعلمانيين في تونس. هو تنويه الرئيس الأمريكي، براك أوباما، بالتجربة التونسية، وذلك خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 69. حيث قال، ان تونس من التجارب الناجحة مشيدا بالتعايش بين الأحزاب العلمانية والأحزاب الاسلامية وقدرتها على صياغة دستور جديد. وقد دعا بالمناسبة القيادات الدينية الى المساهمة، في الاستقرار في العالم. لكن هذا "التنويه" لا يمثل ورقة على بياض لاسلاميي تونس، الذين ما زال ينظر اليهم في الداخل والخارج بعين الريبة، بل أنهم مازالوا تحت الاختبار.
من ذلك أن هناك تيار قوي داخل النخبة والادارة الأمريكية، يحمل الاسلاميين مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي بعد موجة ثورات سنة 2011. وهو ما أشار اليه "دينيس روس" في مقالة له تحت عنوان "الاسلاميون ليسوا أصدقاء الولايات المتحدة". اذ كتب قائلا: " لم تمهد الصحوة العربية في عام 2011 الطريق لعهد جديد من الديمقراطية، ولم يكن بإمكانها ذلك. فمؤسسات المجتمع المدني كانت ضعيفة جداً، واستفحلت ثقافة "الفائز يأخذ كل شيء"، وتأججت الخلافات الطائفية، كما بقي الإيمان بالتعددية بدائي جداً. لذا كل ما أدت إليه هذه الصحوة هو الفراغ السياسي والصراع على الهوية."/5/. ولعل هذا الفراغ هو الذي ترك الباب مفتوحا، لعودة رموز النظام الذي قامت عليه الثورة.
عودة رموز النظام القديم
من العلامات البارزة التي ستطبع الانتخابات القادمة في تونس، هو عودة رموز النظام السابق، الذي قامت عليه الثورة. الذين أسسوا أحزاب سياسية تشارك في الانتخابات البرلمانية. كما ترشح ستة من أبرز الوزراء الذين عملوا مع الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي للانتخابات الرئاسية.
وقد أثار ترشح وزراء الصف الأول في أخر حكومة قبل الثورة، من الذين شاركوا في كل حكومات بن علي طيلة 23 سنة، العديد من ردود الأفعال. بين رافض لعودتهم للحياة السياسية باعتبارهم جزء من نظام قامت عليه ثورة شعبية. وطرف أخر مؤيد لهذه العودة، بل يري أنها أصبحت ضرورية، لإنقاذ البلاد من حالة التردي التي انتهت إليها، بعد ثلاثة سنوات ونصف من الثورة.
يذكر أن القضاء التونسي، كان قد برأ جل أو كل وزراء بن علي من الاتهامات التي رفعت ضدهم بعد الثورة. الذين لم ينتظروا طويلا للعودة، ولتصدر المشهد السياسي والإعلامي من جديد، وكأن شيئا لم يقع. كما عقدوا تحالفات في السر والعلن. الأمر سمح لهم في مرحلة أولى، إسقاط "قانون العزل السياسي"، الذي أقصاهم من المشاركة في انتخابات التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 . ثم المرور في مرحلة ثانية إلى إعادة التنظم، من خلال تأسيس أحزاب سياسية، ناطقة باسمهم وممثلة لهم. وهي مقدمات انتهت بإعلان الترشح للاستحقاقات الانتخابية القادمة، سواء التشريعية أو الرئاسية، التي لا يستبعد أن تعيدهم من جديد لحكم تونس. من خلال الفوز برئاسة الجمهورية. على اعتبار وأن أهم المرشحين لهذا المنصب محسوبون على "النظام القديم".
خاصة، بعد أن أعلنت حركة "النهضة" عن "زهدها" في الترشح للرئاسة. وهنا لا يستبعد أن "تجبر" النهضة على اختيار أحد وزراء بن علي كرئيس "توافقي"، خصوصا وأنها لا تمتلك مرشح للرئاسة، كما أن اكراهات السياسة، المرتبطة بتراجع الإسلام السياسي، بعد تجربة حكم فاشلة. ترافقت مع تصاعد الحركات الدينية الجهادية، تفرض علي النهضة تجرع العلقم من أجل البقاء في المشهد. من أجل "إعادة التموقع" وبالتالي تجاوز العاصفة بأخف الأضرار الممكنة.
ان تعطل مسار الانتقال الديمقراطي، والعجز عن تأمين احتياجات الناس، مع تفجر مظاهر العنف السياسي الذي تطور لإرهاب مسلح مارسته جماعات متشددة في "غفلة" من "حكم الترويكا" بزعامة "النهضة". نجم عنه التعجيل برحيل الإسلاميين الذين جاءت بهم ما يعرف ب"الحالة الثورية" التي ميزت المشهد التونسي بعد سقوط نظام بن علي. كما ساهم تراجع الخطاب الثوري بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، في خلق واقع جديد على الأرض، من أبرز سيماته بروز دعوات لعودة رموز النظام القديم. دعوات صاحبها تراجع "المد الثوري" بقيادة حزب إسلامي "محافظ" ، أصبح ينظر إليه على أنه أصبح يمثل خطرا، على وحدة المجتمع واستمرار الدولة ومؤسساتها.
نهاية منطق "الثورة"
هذا الوضع المستجد، فرض طغيان منطق "التسويات" على منطق "القطيعة". وكان من "بركاته" تنازل راشد الغنوشي و "جماعته" عن مقولة "المحاسبة" لصالح "المصالحة" ثم "التوافق" لاحقا. ضمن هذه "الثقافة السياسية المستحدثة، التي "اقتنع" بها الإسلاميون لمنع انهيار مبنى سيكونون هم أول ضحاياه، على غرار ما حصل في مصر مع جماعة "الاخوان". صوت المجلس الوطني التأسيسي، ذي الأغلبية النهضوية ضد "قانون العزل السياسي"، الذي كان يستهدف، وفي المقام الأول رموز نظام بن علي من وزراء وكبار مسؤولين. وفي هذا السياق، قال رئيس حركة النهضة الاسلامية –الذي صوت حزبه ضد العزل- "أن الانتخابات هي الإطار الديمقراطي الوحيد للعزل أو الإقصاء، وأن الشعب التونسي هو المخول لاقصاء هذا الشخص أو ذاك، أو هذا الحزب أو ذاك عبر انتخابات حرة وديمقراطية"/6/.
كما يلاحظ أن الشارع التونسي شهد حصول تراجع جلي في أصوات وخطابات "الجماعات الثورية"، التي كرست كل جهودها ل "شيطنة" النظام القديم ورموزه. لصالح بروز ما يمكن أن نطلق عليه "قابلية" قبول عودة "النظام القديم"، ونعني هنا الإطارات التي عملت مع نظام بن علي وتحملت فيه مواقع مهمة في الإدارة أو في الجهاز التنفيذي/الحكومي. بل أن هذه "القابلية" تحولت إلى ما يشبه "المطلب المجتمعي"، والذي لا يستبعد أن تدعمه نتائج الانتخابات القادمة، خصوصا بعد التراجع السياسي والمجتمعي لشعبية الإسلاميين.
كما عبر هذا "الحنين" لرموز الماضي، عن وجود تقييم موضوعي لفترة الحكم السابقة، خاصة رموزها من وزراء وكبار موظفين. باتجاه حصول فهم يري أن مرحلة ما قبل الثورة ليست كلها خرابا، وأن رموزها ليسوا كلهم شياطين. وهو ما سمح ب "تبرئة" هذه الرموز، التي برأها أيضا القضاء. كما أن الكثير من الدارسين والمتابعين لفترة حكم بن علي، يرون أنه لا وجود ل "رجالات بن علي"، وعلى خلاف ذلك فان مؤسسات الدولة والنظام السياسي الذي أسس الدولة الوطنية بعد الاستقلال، أفرز سياسيين وإداريين وموظفين سامين، وقد سعى بن علي لتوظيفهم في خدمة حكمه ونظامه، مثلما حصل ذلك مع الرئيس بورقيبة قبله. وهم بذلك يصنفون كتقنوقراط لا كسياسيين.
وهو ما يؤكد أن زين العابدين بن علي عمل خلال كامل فترة حكمه، على استقطاب أعلى وأبرز الكفاءات في مختلف المجالات، وأن كل الحكومات التي شكلها كانت متكونة من موظفين وتقنوقراط وليس من سياسيين عدى بعض الاستثناءات وهي قليلة. ومن هنا فان الكثيرون يرون أن جل الوزراء وكبار إطارات الدولة في عهد بن علي، لا يتحملون وزر أخطاء النظام، بل أنه يحسب لهم نجاحهم في تحقيق معدلات نمو هامة، إلى جانب استقرار اجتماعي وتضامن بين فئات المجتمع.
كما توجد قناعة راسخة، لدي قطاع واسع من التونسيين، بأن كل مساوئ نظام بن علي ارتبطت بعائلته المقربة، لا بالكفاءات التي كانت تسير دواليب الدولة والإدارة، من ذلك أن الدولة كانت تشتغل وفق مقاييس علمية، ما جعلها تفرز نجاحات في أكثر من قطاع. بفضل الفريق الذي كان يعمل بها، وهذا ما يفسر وجود قبول لعودة الرجال الذين اشتغلوا مع بن علي لتصدر المشهد والترشح لرئاسة البلاد.
بل أننا لاحظنا وجود تفاعلا ايجابيا، لدى قطاع واسع من التونسيين مع ترشح بعض وزراء بن علي للرئاسة. وهذا يفسر بوجود رضي عن أدائهم السابق، فهم يحيلون بل يذكرون التونسيين بمعايير مثل الاستقرار والأمن والكفاءة في تصريف الشأن العام...والتي افتقدت كلها بعد الثورة.
هوامش
1/ برزت بعد سنة ونصف من الثورة عدة أحزاب ذات مرجعية دستورية، أي نسبة لحزب الدستور الذي قاد الحركة الوطنية، ضد الاستعمار الفرنسي، وحكم دولة ما بعد الاستقلال خلال فترتي كل من الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ولعل من أهم الأحزاب الدستورية الحالية، نذكر حزب "نداء تونس" بزعامة رئيس ابرلمان الأسبق في عهد بن علي، الباجي قائد السبسي، و حزب "الحركة الدستورية" بزعامة مدير الحزب في عهد بورقيبة ورئيس الحكومة في عهد بن علي، حامد القروي وكذلك حزب "المبادرة الدستورية" بزعامة اخر وزير للخارجية في عهد زين العابدين بن علي.
2/ من دراسة للباحث التونسي، عبد الطيف الحشاني، حول "الانتخابات الأولى في تونس بعد الثورة"
3/ في رده على رفض قواعد حركة النهضة للخروج من الحكم، خاطبهم راشد الغنوشي بأن "الحركة خرجت من الحكومة لكنها لمتخرج من الحكم"، على اعتبار أنها تحوز على أغلبية التأسيسي –البرلمان- الذي يصادق على القوانين ويراقب الحكومة ويملك صلاحيات سحب الثقة منها، بالتالي أن حزبه –النهضة- ما زال يتمسك بكل خيوط الحكم، حتى وهو لا يحكم أي لا يقود الحكومة.
4/ منذر بالضيافي، الاسلاميون والحكم- تجربة حركة النهضة-، كتاب صدر في جانفي 2014، عن دار "ورقة" للنشر بتونس، ص 178
5/ دينس روس، الاسلاميون ليسوا أصدقاء الولايات المتحدة، سبتمبر 2014، راجع الرابط التالي:
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/islamists-are-not-our-friends
6/ تصريح اعلامي للغنوشي، بعد اسقاط المجلس الوطني التأسيسي، لقانون العزل السياسي.
المصدر: موقع العربية للدراسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.