التجاذبات السياسية القائمة ليست بتلك البساطة التي يتصورها الكثيرون. فالأحزاب المشكلة للمشهد السياسي تريد إحداث معادلات صعبة تقوم على الحفاظ على القواعد والرصيد الانتخابي والامتداد الجماهيري من جهة وخدمة المصالح الاجتماعية والاقتصادية المعقدة والمرتبطة بالداخل والخارج من جهة ثانية. وهذه اللعبة يختلط فيها كل ما هو ديني وثقافي وإيديولوجي مع كل مع ما هو مصالح اقتصادية واجتماعية معقدة. استغرب كثيرون من ذلك الغزل المتبادل داخل العائلة اليمينية بين شقها الحداثوي (نداء تونس) وشقها الإسلاموي (حركة النهضة). لكن التمعن في المضامين العميقة لهذا الغزل سيفضي إلى زوال العجب. تنظيمات الإسلام السياسي بما في ذلك فرع التنظيم العالمي للإخوان الذي ينشط في تونس تحت اسم حركة النهضة والذي يمثل الشق الإسلاموي لليمين الليبرالي في نمطه الإقطاعي / الكيمبرادوري... هذه التنظيمات "الإسلامية" لا يمكن أن تعيش في ظل المشاريع التنموية الإقتصادية والاجتماعية والثقافية التقدمية والحديثة. لذلك تسعى هذه التنظيمات إلى إرساء أرضية اجتماعية اقتصادية ثقافية تقليدية وطوباوية تقوم على مفهوم التكافل والصدقات والزكاة وغيرها من الشعارات التي هي في الواقع غطاء لإرساء مجتمع طبقي متخلف يلعب فيه أشباه الرأسماليين وأشباه الإقطاعيين دورا محوريا في تكديس الثروات والثراء العشوائي على حساب المنظومة الاقتصادية العامة وثروات البلاد وقواها الحية، مقابل ترك فئة واسعة جدا من الشعب لهاثة وراء الرغيف ومتعلقة بالفتات الذي قد يجود به "البرجوازيون الإسلاميون" باسم السماء. لكن لسائل أن يتساءل عن سر العلاقة بين الشق الإسلاموي لليمين الإقطاعي والشق الحداثوي لليمين الإقطاعي، وهذا تساؤل في محله باعتبار أن اليمين الحداثوي لا علاقة له بالطرح الإسلاموي. هنا علينا الإشارة إلى أن الإختلافات الشكلية بين اليمينين لا تنفي ذلك الخيط السميك الذي يربط بين التيارين باعتبار أن القاعدة المجتمعية والإقتصادية والثقافية التي تجمعهما هي نفسها مع بعض الاختلافات من حيث البنية التبريرية لهذه المشاريع (تبرير باسم الدين والهوية مقابل تبرير باسم الحداثة والوطنية). فاليمين الحداثوي يتولى الحفاظ على نفس القاعدة المجتمعية الاقتصادية الثقافية التي تسمح لليمين الإسلاموي بالتواجد والنشاط داخل المجتمع في انتظار العودة والتغوّل. واليمين الإسلاموي يمثل عجلة النجدة لليمين الحداثوي باعتباره الضامن للحفاظ على نفس الأرضية التي تسمح بالتواجد. لهذه الاعتبارات تشهد العائلة اليمينية تبادلا للغزل رغم الاختلافات التي تبدو جوهرية. ولعل ما تشهده تونس هذه الأيام يذكرنا بفترة التقارب بين الماكينتين الدستورية والإخوانية في بداية الثمانينات. حركة النهضة تريد التوفيق وإحداث المعادلة بين ما تريده القيادة وبين طموحات القواعد. حركة النهضة وبعد تجريم التنظيم الإخواني الأم في الدول العربية الأكثر وزنا وفاعلية وبعد تورطها الأخلاقي والسياسي في التحريض والعنف و إدخال البلاد في لعبة محاور خطيرة، تريد اليوم المهادنة وأخذ الأنفاس حتى تحافظ على وجودها. وما قامت به الإماراتالمتحدة أخيرا عندما جرمت الذراع الفقهي والفكري للإخوان والمتمثل في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، هو رسالة إلى أنه لا سبيل لمهادنة أي نفس إخواني وهي بالتالي تدرك أن تونس هي المعقل الأخير للإخوان. الخطاب الرسمي لحركة النهضة في ما يخص الموقف من الدور الثاني للانتخابات الرئاسية هو مناورة موجّهة إلى ناحيتين. إولا، إحداث نوع من الضغوط الناعمة حتى يعطي نداء تونس ضمانات تخص الحد الأدنى للمشاركة السياسية وعدم المحاسبة وضمان هامش التحرك لإخوان تونس داخليا و خارجيا خاصة بعد التضييق الذي يعيشونه وبعد تجريم تنظيمهم الأم في الدول العربية الأكثر وزنا وفاعلية وبعد تجريم ذراعهم الفقهي والفكري في الإمارات. ثانيا، مواجهة طموحات القواعد التي تسعى إلى الدعم الصريح للمرزوقي وذلك يإحداث نوع من الليونة على مستوى المركز لتجنب الإنشقاقات على مستوى الأطراف. حركة النهضة تعيش أزمة حقيقية باعتبار التضييقات الخارجية وتورطها سياسيا وأخلاقيا في الداخل. وهذا ما يجعل حركة النهضة تسعى إلى الحصول على ضمانات مقابل عدم دعم المرزوقي ثم لعب دور الفتى المهذب داخل البرلمان وخارجه. حركة النهضة تدرك طموحات ورغبات قواعدها كما تدرك أن دعمها الصريح للمرزوقي سيضعها في موقع الفتى المشاغب بالنسبة لنداء تونس. الماكينة الندائية غاضبة بعد النتيجة الباهرة التي حققها المرزوقي لذلك تريد الضغط على حركة النهضة حتى تكبح جماح قواعدها المتوسطة والصغيرة قدر الإمكان. معادلات صعبة وهامش تحرك ضيق بالنسبة لحركة النهضة التي تريد إحداث المعادلة بين الحفاظ على قواعدها وتماسكها التنظيمي من جهة وتأمين المرور الناعم للباجي إلى قصر قرطاج من جهة ثانية ... حركة النهضة لن تدعم أيا من المترشحين في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية وذلك لاعتبارات يطول شرحها. وما نراه اليوم من تلميحات ومناورات لدى قادة النهضة هو محاولة لإرساء "الوفاق" حتى تحافظ حركة النهضة على الحد الأدني لوحودها السياسي والاقتصادي الاجتماعي داخليا وخارجيا في إطار المشترك اليميني والقاعدة الثقافية المجتمعية المشتركة التي تسمح لكلا التيارين بالتواجد والإحياء على المستوى الاستراتيجي داخليا وخارجيا. حركة النهضة قد تكتفي بالضغط الممنهج على قواعدها حتى لا تخدم المنصف المرزوقي خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وقد تكتفي أيضا بالتدخل لدى الدوائر السياسية الفاعلة في تركيا وقطر حتى لا تدعم المنصف المرزوقي ماليا وإعلاميا. على عكس ما قد يتبادر إلى الأذهان، فوز السبسي بالرئاسة سيكون تمهيدا لتقارب عميق بين "النهضة" و "النداء" وليس العكس، وذلك لاعتبارات يطول شرحها. من الواجب التمييز بين التجاذبات والتناقضات الاجتماعية والإعلامية الفوقية والتي تمثل "قشرة" مهمّة جدا لإرساء نمط الإدارة الاجتماعية والسياسية. وهذه التجاذبات تخص "العوام" والبنى المدنية المتماهية مع لعبة مصالح صغيرة ...... وبين النواة "الخفية" للعبة مصالح اقتصادية واجتماعية وتاريخية استراتيجية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالداخل والخارج و تُوظُف من خلالها التناقضات الاجتماعية والثقافية والتاريخية "الظاهرة". وهذه التجاذبات تهمّ"النخب" السياسية والاجتماعية "الكبيرة" المتماهية مع لعبة مصالح "كبيرة"...