لعل الجميع يتفق ان المكسب الوحيد الذي منحته الثورة التونسية هو حرية التعبير والصحافة. وان كان كثيرا من المواطنين غير مهتمين فعلا بحرية الصحافة ولا شاغل لهم سوى ملأ البطون الخاوية والقفاف الفارغة. لكن الحقيقة غير ذلك فاعلام حر وشرس لا يمكن الا ان يكون صوت للفقراء والمهشمين يقول ما يريد الشعب قوله وما لاتريد السلطة سماعه. فمباشرة يوم 15 جانفي فتحت جنة الحرية ابوابها على مصراعيها لكل الصحفيين وصار كثير من المطبلين والمهللين لنظام بن علي اسودا مفترسة يصعب ترويضها وصد اندفاعها وحماسها. الحماس والاندفاع وصل حد الفوضى ولكن قذ يكون ذلك مقبولا في بدايات اي تجربة ديمقراطيية ولو كان ذلك بجرعات زائدة وفي بداية مرحلة جديدة من تاريخ شعب عانا كثيرا من قمع حرياته حتى خلف اسوار البيوت المغلقة.
لم يتغير المشهد الاعلامي كثيرا وبقيت كثير من الوجوه القديمة ترواح مكانها بل تغيرت بعض القلوب المذنبة وتدافع معشر الصحفييون نحو صحافة أكثر مصداقية وشفافية وحرية وجرأة وكأن كثير منهم يريدون التكفير عن ذنوب ارتكبت في حق شعب بارداتهم طوعا او بدون اراداتهم. المشهد كان يبدو سرياليا مثاليا حتى خال كثيرون انه لا ركوع ولاخنوغ ولا تواطىء ولا سلطة تهز عرش الاعلام بعد اليوم. حرية الاعلام اشتد عودها في عهد الترويكا التي لو حدث زلزال في تونس لاثبتوا بالحجة والبرهان والوثائق المسربة انها هي من تقف ورائه ولو تقصيرا..فالكل اصبح يدقق في كل شيء وينتقد بحدة وكثيرا ما تجاوز حدود المعقول ووصل الى درجة الفوضى والجرعة الزائدة التي كادت تخنق الديمقراطية الناشئة حين اصبح كثيرون من الصحافيين يتمرسون خلف معسكرات ويحرضون طرفا ضد الاخر..لكن كان العذر واضحا "حرية تشوبها فوضى في بداية التجرية افضل بكثير من تكميم مقنن لافواه فرسان الكلمة والصورة والصوت". وعلى الرغم من كل ذلك يمكن الجزم ان ايجابيات المرحلة كانت اكثر من سلبياتها بل ان جرعات الحرية والديمقراطية جعلت منظمات عالمية تصنف تونس ضمن اكثر دول المنطقة حرية وديمقراطية حتى كدنا ننافس دول عريقة في هذا المجال..
ولكن هيهات..ولى عهد الترويكا وحل العهد الجديد السعيد مرة اخرى بعد الانتخابات الاخيرة. واذ بأغلب القنوات ومن بينها الاكثر مشاهدة تحدث تغييرات جذرية في خطها التحريري عن قصد او دون قصد وهو ما أصبح جليا للعيان ولا يتطلب كثيرا من الفطنة والذكاء. فالوطنية الاولى التي كانت تغطي نشاطات رئيس الجمهورية "المؤقت" في نهاية نشراتها في كثير من المناسبات أصبحت تبث حفلات الأرشيف و خطابات الحنين و ما يعجب فخامة الرئيس وربما السيدة الاولى كذلك...وأصبحنا نرى في كل نشرات وزارة الداخلية تعتقل العشرات وتفكك بؤر ارهابية هنا وهناك وتسيطر على الوضع..وزارة الداخلية كانت مع الترويكا والحكومة الانتقالية محل نقد طالتها كل السهام وانتصب صحفيون ومحللون يعطونها الحيل في كيفية مقاومة الارهاب والتصدي للارهابيين.
وحتى الحداد كان مصدر تندر كثير من الصحفيين عندما يعلن عند اغتيال جنود اصبحت لا ترى عنه ولو تعليق بينما يعلن على روح العاهل السعودي التي لم تعلن بلاده الحداد على فراقه.
وحتى الذي الحداد كان مصدر تندر كثير من الصحفيين عندما يعلن عن اغتيال جنودنا، أصبحنا تقريبا لا نرى عنه ولو تعليق بينما يعلن على روح العاهل السعودي التي لم تعلن بلاده الحداد على فراقه و أصبحنا نقرأ عناوين من نوع "ذاك الشبل من ذاك الأسد".
حدث تكرر مرتين في سنوات قليلة..قوات الامن تضرب محتجين بالرش في سليانة قبل عامين واخرى في الذهيية هذا العام..سبحان مغير الاحوال فالاسد المفترس الذي هاجم كل حراس الضيعة تحول الى نعامة وطأطأت اغلب الرؤوس الا قلة قليلة..
الحديث طبعا لا يشمل كل الصحفيين لانه هنالك من ظلوا حراسا للحرية يتكلمون ولايهادنون ولكن للاسف هم قلة قليلة ويكاد صوتهم لا يسمع وسط غوغاء المدافعين عن كل ما يقوم به الحكام الجدد.. الحكام القدم والجدد القدم لاتختلف ممارساتهم وازدرائهم للشعب ولكن ما يثير الحيرة تغيير تناول الاعلام للاحداث.
أحداث الرش في الذهيبة التي دفع ثمنها مواطن في عمر الزهور لم تنل حظها في قناة نريدها دون الوان مهما كانت الا لون تونس، وكانت وقتها قناتنا الموقرة منشغلة ببث أغان ولم تتفاعل مع الحدث الا بتأخير. وللاسف هذا الخط التحريري يذكر كثيرا بمرحلة سابقة مرحلة الديكتاتور وعصابته من خلال التخفيف من وطأة اي مصاب حتى لا تتهم الحكومة الجديدة لا قدر الله بأنها سبب البلاء.
اما الاعلام الخاص فأصبح اكثره بقدرة قادر يهلل ويطبل للزيارات الفجئية للمسؤولين ويراه بعين كبيرة اكبارا واجلالا للمسؤوليين الذين تنازلوا عن مكاتبهم ونزلوا للشوراع في حين مثلا لم يخفض اي منهم في راتبه تضامنا مع الشعب الذي يقاسي الويلات. في حين أصبح للجرأة معنى 0خر وهو الإثارة و تحقيق أعلى نسب المشاهدة لا غير فحلقة لمن يجرأ فقط مثلا مع أحد الطرابلسية كان في متناولها الكشف عن عدة أسماء تورطت في سرقة و نهب الشعب التونسي إلا أن القناة إكتفت بتمرير كواليس لا أعتقد أنها تشرف المهنة و بث حقائق يعلمها كل التونسيين و أخرى لا تهم المواطن المنهوب في شيء.
كثير من الاذاعات ممن كانت تتسرب اليها الوثائق صباحا مساءا لم تعد تسمع صوتها العالي بل اصبحت تمرر فيديوهات لوزير يستمع لعاملة ويعدها بالجح حتى كدنا نبكي تأثرا لحنان الوزير المفرط تجاه شعبه وحنان الاذاعة الفياض تجاه الوزير.
بين اليوم والامس تغيرت كثير من الامور واني اشتم رائحة هدنة وخضوع من كثير من الصحافيين ..واني ارى رؤوسا بدأت تطاطأ وتركع واخرى تتحفى وراء الاثارة متجنبة المواضيع الانية الحارقة التي قد تغضب بعض السادة.
فرجاءا ارفعوا رؤسكم احتراما لدماء الشهداء التي مازالت تنزف وخجلا من دموع الثكالى اللاتي دفعن ثمن الحرية شبانا في عمر الربيع حتى ننعم بها جميعا سيما وقد كنتم أول المستفدين.