"من السذاجة محاولة إثبات ما هو ثابت ومؤكّد! أن تحاول أن تفتح العيون على ما هي تراه يوميا. فما أكتبه الآن بالحبر تكتبه القوات الأمريكية يوميا بدماء إخواننا في أفغانستانوالعراق لتضيفه إلى صفحاتها المتراكمة في هذ المجال!" منير العكش. من على متن حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول، اعتبر رئيس أركان الجيوش الأمريكية، الجنرال مارتن دمبسي (Martin Dempsey) أنه "من الخطأ تكثيف الضربات الجوية للائتلاف الدولي على مواقع ومقرات مسلحّي داعش، داعيا في المقابل إلى اعتماد "الصبر الاستراتيجي" (Strategic Patience) في مُواجهة هذا التنظيم. دمبسي استمات في دفاعه أيضا عن وتيرة العملية العسكرية وإستراتيجيتها، معلّلا بطء نسقها وشحّ منجزها في مقابل المكاسب وتمدّد النفوذ الداعشي، "بمستوى جاهزية الجيش العراقي التي انتقدها، وبمدى رغبة الحكومة العراقية في تحقيق المصالحة مع السكان العرب السنّة الذين يشعرون بالتهميش ويتوجّسون خيفة من القوات العراقية التي يهيمن عليها الشيعة". أما عن صبره "الإستراتيجي"، الذي نصح به، كحلا سحري، للتصدّي لتنظيم داعش ودحره، فالجنرال يتذرّع "بالحيّز الزمنيّ الضروري لتجميع كافة المعلومات اللاّزمة بشأن الأهداف المحتملة حتى تكون الغارات أكثر دقّة ونجاعة"! دامبسي الذي شدّد على عدم ضرورة زيادة عدد العسكريين الأمريكيين في العراق، اعتبر أيضا أنّ توسيع الحملة العسكرية على تنظيم داعش سيكون خطأ في المرحلة الراهنة وسيسفر عن مزيد الضحايا المدنيين، ممّا سيدعم الدعاية التي يقوم بها التنظيم ضد التحالف"!! ينسى أو يتناسى الجنرال، الذي يحمّل المسؤولية للقوات العراقية أن جهابذة واشنطن على رأسهم بول بريمر، Paul Bremer، هم من حلّوا مؤسّسة الجيش العراقية ذات احتلال غاشم بفرية لم يحاسب من افتراها حتى الآن بتهمة جرائم حرب موصوفة، كما ينسى أنّ من استهدف الجيش استهدف الوحدة الوطنية وأطلق يد من أذاق أمريكا اللاتينية ويلات فرق الموت، فكان أن أرسل جون نغروبوبنتي، John Negroponte، وليس غيره، لينفّذ نفس المخطّط ويغرق العراق حتى يومنا هذا في بركة الدم الطائفية التي لا تجفّ! ينسى أيضا أن من دستر الطائفية دعيّ في القانون الدستوري، إسمه نوح فيلدان، Noah Feldman، كُلّف بخطّ دستور العراق، كما ساهم في كتابة دساتير "الربيع"! أما عن الحرص عن المدنيين فمنذ متى كان للمدنيين عند العسكريين الأمريكيين حرمة؟ أم أنّ قصفهم السجّادي لبغداد وكافة مدن العراق كانت صواريخه ورودا وليس حمما ويورانيوما منضّبا، أتت على الأخضر واليابس!!! ثم من فرّخ هذه التنظيمات التي توالدت كالفطر السام؟ من درّبها وسلّحها وأطلقها أدوات لحروب الوكالة تعبّد للمستعمر العودة تستجديه ضحيته صاغرة راكعة؟؟ يبلغ الاستخفاف بالعقول أوجه حين يُنصّب الجنرال دمبسي نفسه إماما مدافعا عن "سنّة" العراق ليحذّر حكومة نشأت وترعرعت على نهج دستور نوح المحاصصة الطائفية من "احتمال تفكّك الائتلاف الدولي في حال لم تقم الحكومة العراقية بتسوية الخلافات الطائفية في البلاد"! مُكمّلا عظاته بتذكير العراقيين "أنّ هدف واشنطن وبقية دول الائتلاف هو التأكّد من أنّ حقوق كل المجموعات من سنّة وشيعة وأكراد وغيرهم ستكون مصانة"! الجنرال وتحالفه، من راغبين وصاغرين وقلقين، طبعا من سيضمنون لهؤلاء العراقيين الذين تشظّت وحدتهم الوطنية بعد صدمات خرّيجي مدرسة جون نغروبونتي وفرق موته! لنفترض جدلا جدية الولاياتالمتحدة في حربها ضد الإرهاب، التي بدأت من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكن لنسأل أيضا الأسئلة التالية: أ لم تبدأ واشنطن عملياتها العسكرية إلا بعد أن أضحى وحشها المدلّل بتهديد مصالحها ممدّدا نفوذه شمال العراقي، وتحديداً مع اقترابه من اربيل مع ما تعنيه اربيل؟ أ لم تمتنع وزارة دفاع هذا الذي درّب عسكريوه ومستشاروه جيلا جديدا من العساكر العراقيين طائفيين وأقرب إلى الميليشيات، عديمي الخبرة وفاقدي التأهيل، وبدون عقيدة عسكرية؟ أ لم يمتنع هذا البنتاغون عن تقديم أية مساعدات للقوات العراقية وظلّ يماطلها ولا يزال في تنفيذ الاتفاقية الأمنية الموقّعة مع بغداد إبّان الانسحاب الأمريكي من العراق؟ أ لم تؤكّد لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب العراقي، على لسان رئيسها، حاكم الزاملي، مستشهدا ب"الوثائق والصور والمعلومات أنّ بعض طائرات التحالف تخرق السيادة العراقية والأعراف الدولية من خلال إلقاء مساعدات لتنظيم داعش، وهبوط بعض هذه الطائرات في المطارات التي يسيطر عليها هذا التنظيم، في حين أنّ كل الأجواء تحت سيطرة التحالف الدولي، ممّا يُثبت تورّط دول أو دولة في هذا الأمر، ممّا يشكّل خطورة على القطاعات وعلى أمن العراق ويطيل أمد الحرب"؟! أ لم تقصف نيران التحالف "الصديقة" مُعسكرا للجيش العراقي قرب الرمادي بمحافظة الأنبار، في عزّ معركة استعادة تكريت؟ ثم ما هذا التفويض الذي يستجديه أوباما من كونغرس لمنحه "رسميا صلاحية شنّ حرب على تنظيم داعش" من المفروض أنّه يخوضها في العراقوسوريا منذ 7 أشهر؟ طلب يردّ عليه النواب الديمقراطيون، على لسان السناتور روبرت منينديز، Robert Menendez، أرفع عضو بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بأنّهم "غير مُستعدّين لمنح هذا الرئيس أو أيّ رئيس آخر تفويضا مفتوحا للحرب أو شيكا على بياض". من يستطيع فكّ شفرة ازدواجية هذا الخطاب ربما استطاع أيضا استيعاب أجندة ومقاربات وأهداف الجنرال وما يسمّى بالتحالف الدولي، متعدّدة الهوى، وحربها المستدامة ضد من يدرّبونهم “معتدلين” في الأردن وتركيا والسعودية، شركاء التحالف!، ليقصفوهم بالصواريخ حينا، وبالمؤن والعتاد في الرقة والموصل، أحيانا أخرى!! أو ربمّا أمكنه أيضا، فهم التناقض الصارخ بين ما يصرّح به من يصمّ آذان هذه "المعارضة" السورية "معتدلين" و"متطرّفين" و"بين بين" حتى يقرّر الجنرال وإدارة أوباما تصنيفهم، ألاّ مكان للنظام في مستقبل سوريا، ومواقف مغايرة يختزلها تصريح لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، CIA، جون برينان، John Brennan، مفاده ألاّ: "أحد لا روسيا ولا الولاياتالمتحدة ولا التحالف الدولي ولا دول المنطقة، يريد انهيار الحكومة والمؤسّسات السياسية في دمشق". كلاّ صبر الجنرال الإستراتيجي ليس التناقض ولا الارتباك ولا التخبّط، بل تفعيل وتنفيذ ممنهج لإستراتيجية عرّابها هنري كيسينجر، Henry Kissinger، تقضي بهزيمة الطرفين، كان قد أوصى بها خيارا أمريكيا أيام الحرب الإيرانيّة العراقيّة، وتمرين تطبيقيّ لما يسمّيه المؤلّف العسكري الإستراتيجي، إدوارد لتفاك Edward N) Luttwak) "النّفور من الطرفين" أو "المأزق المستدام" (Prolonged Stalemate) وعليه فالمبتغى لن يكون إلاّ استطالة للحرب لا حسمها، ما دام المراد ألاّ "يهدف إلى تغيير ديناميكيّة الحرب الأهليّة الكبرى"، كما نصح بوب كوركر، Bob Corker، السيناتور الجمهوري المعروف! مع ذلك ثمة من لا يزالون يراهنون على الولاياتالمتحدة في حربها المستدامة تخوضها على أراضيهم وبتمويلهم وبأبنائهم يُساقون إلى المسلخ الطائفي دون أن تهتزّ لهم قصبة!! هل يعقلون؟