ضمن الأستاذ الباجي قائد السبسي بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية البقاء خمس سنوات في قرطاج، لكنّ حركة نداء تونس لم تضمن رغم فوزها بالانتخابات الرئاسية بقاءها موحّدة للخمس سنوات القادمة، فقد كشفت الأزمة الّتي تعيشها الحركة منذ مغادرة مؤسّسها أنّها تواجه سؤال وجود لا صراع حدود، وأنّها إن لم يفلح قادتها في التوافق على مشروع إعادة بنائها على أسس تمكّنها من كسب رهان الاستمرارية، قد تنتهي –لا قدّر الله- إلى انفراط عقدها وذهاب ريحها وتشتّت رابطتها وتلاشي دورها واهتزاز المنظومة المرتبطة بها. أوّل طريق الشفاء هو الاعتراف بوجود المرض، ويجب أن يعترف الندائيون بأنّهم متنوّعون، وأنّ تنوّعهم يمكن أن يستمرّ مصدر قوتّهم كما يمكن أن يحوّلوه إلى نقمة إن فشلوا في حسن إدارته، وقد كان الأستاذ الباجي قائد السبسي طيلة رئاسته للحركة قائدا للاركسترا السمفوني، ضامنا للتعايش بين "الروافد" المختلفة، حكما بين المجموعات في حال اختلاف أهلها، موحّدا للكتل في معارك الحركة، واعدا جميعها بالنصر القريب والغنيمة الكبرى، أمّا السّاعة فقد أضحى ضروريا إدارة "التنوّع" بآليات جديدة والمرور بالحركة من وضعية "الروافد" السابقة إلى وضعية "التيّارات" الممكنة. لا توجد حلول كثيرة لإنقاذ حركة نداء تونس، ف"الحلّ الفيدرالي" يبدو اليوم الحلّ الوحيد الممكن للأزمة، فالجسم المركّب لا يمكن تحريكه بنظام بسيط، ونداء تونس حركة مركّبة بامتياز لا يمكن أن تدار إلاّ بنظام مركّب، تماما كما لا يتخيّل أحد إمكانية إدارة دول كالولايات المتحدة أو الصين أو البرازيل أو الهند أو روسيا من خلال نظام مركزي، وأقلّه أن تدار من قبل نظام "لامركزي" أو نظام "اتحادي"، ولن يكون بدعة أن تدار حركة نداء تونس عبر آلية "التيارات" المركّبة، كما يدار منذ عقود الحزب الاشتراكي الفرنسي، أو حزب العمّال البريطاني، أو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، أو حزب المؤتمر الوطني الافريقي، أو حزب المؤتمر الهندي. يسمح الفصل الثاني من القانون الأساسي لحركة نداء تونس بوجود التيّارات داخلها، خصوصا في الفقرتين الثانية والثالثة، إذ ورد فيهما ما يلي: "إن حركة نداء تونس تستند إلى الفكر الإصلاحي التونسي وإلى التراث الإنساني العالمي وقيم الحرّية والعدالة الاجتماعية، وهي بذلك مفتوحة إلى مختلف التيّارات الفكرية والسياسية الّتي تشترك معها في هذه القيم والمبادئ الأساسية. ومن حقّ تلك التيارات المنضوية داخلها أن تعبرّ عن هويّتها وآرائها بصورة فردية أو جماعية على شرط أن تلتزم بالتوجّهات العامة للحركة وبلوائح مؤتمراتها"، وقد سبق لبعض القيادات الندائية أن أعلنت رغبتها في تأسيس تيّارات داخل الحركة، مثل الطاهر بن حسين الّذي تحدّث قبل أشهر عن "تيّار المستقبل"، ومحسن مرزوق الّذي لم يخف رغبته في الإعلان عن ولادة "التيار البورقيبي الديمقراطي". يختلف لفظ "التيّارات" عن لفظ "الروافد"، فالروافد تشير إلى التجارب الفكرية والسياسية السابقة للقيادات الندائية، أمّا "التيّارات" فتشير أكثر إلى البرامج المستقبلية لأصحابها، وإذا كان الرافد مقصورا على نشطاء من طينة ايديولوجية واحدة أو متشابهة، فإنّ التيّار قد يضمّ نشطاء من روافد متعدّدة، وأهمّ ما في موضوع "التيّارات" أنّها ستحوّل العلاقات القائمة اليوم على صراع ليّ الأذرعة والغلبة، بما فيه الكثير من هدر الطاقات في اتّجاه سلبي، إلى تنافس تعدّدي ديمقراطي يوظّف الطاقات في اتجاه إيجابي بنّاء. يمكن أن يتّفق القادة الندائيون في حال تبنّيهم لخيار "التيّارات" على نظام انتخابي داخلي يضمن لجميعهم حصّة في المؤسّسات القيادية، المجلس الوطني والمكتب التنفيذي، وفقا لنظام التمثيل النسبي، وعلى هذا النحو لن يشعر أيّ من التيّارات بالغبن، وسيتمسّك جميعهم بالوحدة، تماما كما أنقذ الحلّ الفيدرالي وحدة الكثير من الدول ذات القوميات أو الطوائف المتعدّدة، وكما وفّر هذا الحلّ إمكانية لبقاء أحزاب كبرى قائدة عادة ما مثّلت في بلدانها الفكر الوطني الّذي طالما عرف بإطاره الواسع المستوعب لتناقضات الأمم والشعوب الكثيرة. تمثّل حركة نداء تونس تجربة جديدة في إعادة بناء حزب الحركة الوطنية والإصلاحية التونسية، وهي الممثّل الرئيسي للفكر الوطني التونسي بجميع روافده الدستورية والاجتماعية والدينية والنقابية، ويعدّ نجاح الحركة في الاستمرار والبقاء والعطاء نجاحا لهذا المشروع الديمقراطي والحضاري الوطني الّذي نفتخر بالانتماء له والنضال من أجله. *قيادي في حركة نداء تونس