سرعان ما تحوّل الأمر عند البعض، أو حوّل البعض الأمر، من مشكلة داخلية إلى مؤامرة خارجية، ومن مطلب إصلاحي إلى عملية انقلابية، ولئن تمكّن العاضّون بالنواجذ على القانون في قراءة شكلية ظاهرية، المعتصمون بآخر قلاع التأسيس باعتبارها رمز القيادة الشرعية، من صدّ هجوم المناوئين وناكري المعروف والمشاكسين هذه المرّة، فإن الحقيقة الساطعة المزعجة أن أزمة حركة نداء ستستمر ما لم يتعامل الندائيون معها بالاعتراف الواجب بوجودها، وتوافقوا على حلّ حقيقي، عميق وجذري لها، يتجاوز منطق العناد وليّ الأذرعة، ويتحرّر من محدّدات الغنيمة والقبيلة والعقيدة الّتي ما فتئت تتحكّم في عقلنا السياسي وتصوغ مواقفنا وتصنع علاقاتنا وتمنع تطوّر تجاربنا الحزبية ذات الطبيعة المدنية الديمقراطية المعاصرة. لقد طرأت ثلاثة أمور كبرى على حركة نداء تونس خلال الأشهر القليلة القادمة لا يمكن تجاهل تداعياتها وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية على السواء، أوّلها مغادرة القائد المؤسّس الأستاذ الباجي قائد السبسي ليكون رئيسا لكلّ التونسيين قاطبة، وثانيها مغادرة الحزب نفسه صفوف المعارضة إلى المشاركة في السلطة وتحمّل المسؤولية، وثالثها نشوء هيكل جديد دون الاستعداد لذلك هو "الكتلة النيابية"، وقدّ خلّف الأمر الأوّل حالة فراغ رهيب على مستوى القيادة، فيما نتج عن الأمر الثاني تفكّكا لتلك اللحمة الّتي ظهرت جرّاء التوحّد في مواجهة عداوة كبرى مشتركة، كما قاد الأمر الثالث إلى الدفع بوجوه جديدة إلى معترك القيادة ترى أن شرعيتها مستمدّة من الشعب مباشرة. لا يملك الندائيون أيضا تجاهل ثلاث وقائع لم تكن لغالبيتهم راضية مرضية أو مقنعة، أوّلها سوء أداء الحزب في التعامل مع قضية المشاركة الحكومية، وثانيها ارتباك التواصل بين الهياكل القيادية والكتلة النيابية، وثالثها انهيار شبه تام للتفاعل بين الهيئات القيادية والهياكل القاعدية الجهوية والمحليّة، وبإيجاز فقد لاح أن لحركة نداء تونس مشكلات حقيقية في مستوى القيادة والتنظيم والرؤية، وأنّ تصوير الحال على أنّه نتاج طموح زائد لبعض الشخصيات القيادية أو تصفية حسابات بين متنافسين على الرئاسة قديمة أو رغبة بعض المغمورين في التموقع ونيل الشهرة، لن يطمس الأزمة ولن يعدم إمكانية تجدّد ظهورها في الأيّام القادمة خصوصا إذا ما استمرّت مؤسّسات الحكم في سوء الأداء والسيرة، وتعمّقت مشاعر الغضب لدى الشرائح الاجتماعية، واتسعت الشقّة أكثر بين النّاس والطبقة السياسية. لقد نشأت حركة نداء تونس باعتبارها تجربة جديدة في بناء حزب الحركة الوطنية والإصلاحية التونسية، ولتمثيل الفكر الوطني الإصلاحي التونسي في المشهد السياسي والحزبي ما بعد الثورة، والتواجد إلى جانب تجارب أخرى تعود جذورها إلى مدارس فكرية أخرى، إسلامية وقومية عربية ويسارية وليبرالية، وقد جمع شخصيات قيادية حزبية عاشت في الماضي تجارب سياسية متنافرة ومتناقضة، وافترض أنّها قامت بالمراجعات الفكرية والسياسية اللازمة من أجل الحلول في "دار الوسط" الوطنية، لكنّ الأحداث أثبتت باستمرار أن الأمر قد لا يكون عند الجميع كذلك، وأنّ البعض قد التحق بالنداء ليس باعتباره تجربة جديدة شكّلت قطيعة واستمرارية في آن مع تجارب ماضية، إنّما باعتباره إحياء لتجارب قديمة أو تحقيقا لأحلام زعاماتية دفينة أو امتطاء لصهوة فرس رابحة، وهو ما يجعل الأزمة الراهنة أكثر تعقيدا لصعوبة التفريق خلالها بين الذاتي والموضوعي وبين الشخصي والعمومي. يمكن أن تجسّد الأحزاب مشاريع زعماء أو برامج تيارات فكرية وسياسية ساعية للسلطة، ويمكن أن تكون أيضا مزيجا بين هذا وذاك، ولئن كان النداء تجسيدا لمشروع الباجي قائد السبسي فإنه كان في الوقت ذاته تجسيدا لبرنامج تيّار الفكر الوطني والإصلاحي التونسي الجديد، ولئن ارتبط هذا المشروع خلال سنواته الثلاث الأولى بشخص مؤسّسه التاريخي فإن لديه فرصة اليوم ودائما ليرتبط أكثر ببرنامج تيّاره الفكري ويصبح حركة مؤسّساتية ديمقراطية حقيقية، لكنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق دون توفّر الوعي الكافي والجماعة القيادية الصالحة ذات المرجعية الأخلاقية الصلبة، وليس ثمّة للأسف ما ينفي أو يؤكّد إمكانية حصول ذلك، وقد كشفت الأزمة الراهنة أن ملامح الجيل القيادي الراهن في النداء، تقرّبه أكثر من الأجيال الّتي تظهر عادة في أزمنة الانهيار لا أزمنة النشوء والارتقاء الخالدة. لم يعقد النداء مؤتمره بعد، ليقرّ عبره وثائقه الأساسية ويصنع مؤسّساته الدائمة، وهو يتخبّط إلى الآن في مشاكل فكرية وسياسية وتنظيمية معقّدة، وتظهر قيادته غير متجانسة تتجاذبها رياح عاتية، كما لا يبدو المحيط السياسي والجوّ العام السائد في البلاد مساعدا للحزب على إيجاد حلول لقضاياه المستعصية المتفجّرة، وبقدر ما تبحث مؤسسّات الحكم المتعدّدة، الرئاسة والحكومة والبرلمان وغيرها عن ذواتها وعن أنساق عملها الفاعلة المقنعة، بقدر ما تبحث حركة نداء تونس عن ذاتها أيضا، وعمّا يوفّر لها حظوظ البقاء والنماء، وتلك هي خصوصية التجربة، إذ لا شيء مؤبّد تقريبا في السياسة، تماما كما في الطبيعة، حيث لن يبقى ويحيى إلا الأصلح والأجدر والأقوى.