عاجل/ نحو تنفيذ اضراب عام للتاكسي الفردي..؟!    خبر سارّ للتوانسة: إنخفاض سوم الدجاج في رأس العام    العثور على هذا المخرج وزوجته جثتين هامدتين داخل منزلهما..#خبر_عاجل    غلق متحف اللوفر بسبب إضراب الموظفين    ليندا حنيني: أول تونسية وعربية تدخل برنامج FIA Rising Stars 2025    إتحاد بن قردان: الفالحي أول المغادرين.. و4 مباريات ودية في البرنامج    بطولة كرة السلة: برنامج مباريات الجولة الرابعة إيابا    النيابة تأذن بالاحتفاظ بشقيقة قاتل تلميذ الزهروني    مسؤول بوزارة الصحة للتونسيات: ''ما تشريش الكحُل'' من السواق    شنيا يصير لبدنك وقلبك وقت تاكل شوربة العدس؟    هيئة السلامة الصحية للأغذية: حجز وإتلاف مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك وغلق محلات لصنع المرطبات    الاتحاد التونسي لاعانة الاشخاص القاصرين ذهنيا يعقد مجلسه الوطني من 19 الى 21 ديسمبر 2025 بمدينة سوسة    أيام قرطاج السينمائية 2025: فيلم "كان يا مكان في غزة" يركز على الهشاشة الاجتماعية لشباب القطاع المحاصر ويضع الاحتلال خارج الكادر    القيروان: الدورة الثالثة ل"مهرجان الزيتون الجبلي وسياحة زيت الزيتون التونسي"    من بينهم تونسيون: "ملتقى الفنانين" بالفجيرة يحتضن 90 فنانا من العالم    تدعيم المستشفى الجهوي بمنزل تميم بتجهيزات طبية متطوّرة    المؤتمر الدولي الثالث للرياضيات وتطبيقاتها من 21 الى 24 ديسمبر بجزيرة جربة    بطولة كرة السلة: نتائج مباريات الجولة الثالثة إيابا.. والترتيب    حجز 1400 قطعة مرطبات مجمّدة غير صالحة للإستهلاك..#خبر_عاجل    10 سنوات سجنا في حق كاتب عام نقابة أعوان وموظفي العدلية سابقا    فلوسك تحت السيطرة: خطوات بسيطة باش تولّي واعي بمصاريفك    عاجل/ نشرة استثنائية للرصد الجوي.. أمطار مؤقتًا رعدية وغزيرة بهذه المناطق..    الحماية المدنيّة تسجّل 425 تدخلا خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية    بداية من جانفي: إذا دقّوا عليكم الباب...راهو استبيان على النقل مش حاجة أخرى    ما السبب وراء صمود توقعات النمو الاقتصادي لدول آسيان-6؟    الزهروني: إيقاف مشتبه به في جريمة طعن تلميذ حتى الموت    شنيا حقيقة امضاء لسعد الدريدي مع شباب قسنطينة؟..بعد جمعة برك في باردو    مؤسسة دعم تحتفي بمسيرة 10 سنوات من الإدماج المالي وتعلن تخفيض دائم في نسب الفائدة    عاجل: جمعية القضاة تحذر: ترهيب القضاة يهدد العدالة في تونس    عاجل-محرز الغنوشي يُبشّر:''بداية أولى الاضطرابات الجوية والتقلّبات انطلاقًا من هذا اليوم''    تصدى لمنفذي هجوم سيدني.. من هو أحمد الأحمد؟    عاجل: ارتفاع عدد ضحايا الفيضانات بالمغرب    على خلفية الاحتجاجات الأخيرة: إيقاف أكثر من 21 شخصا بالقيروان    بعد هجوم سيدني.. أستراليا تدرس تشديد قوانين حيازة الأسلحة    كأس العرب قطر 2025: المغرب والإمارات في مواجهة حاسمة من أجل بلوغ النهائي    اليوم: نصف نهائي بطولة كأس العرب قطر 2025    HONOR تطلق في تونس هاتفها الجديد HONOR X9d    طقس اليوم: أمطار غزيرة ورياح قوية    إقرار تجمع عمالي أمام شركة نقل تونس ومقاطعة اشغال اللجان (الجامعة العامة للنقل)    أب وابنه.. أستراليا تعلن تفاصيل جديدة عن مشتبه بهما في هجوم سيدني    بشرى للسينمائيين التونسيين إثر صدوره بالرائد الرسمي .. إحداث صندوق التشجيع على الاستثمار في القطاع السينمائي والسمعي البصري    أولا وأخيرا .. أنا لست عربيا ولن أكون    وزارة الفلاحة تنطلق في العمل ببرنامج تخزين كميات من زيت الزيتون لدى الخواص مع اسناد منح للخزن    كأس العرب قطر 2025: مدرب منتخب الأردن يؤكد السعي لبلوغ النهائي على حساب السعودية في مباراة الغد    شجاعته جعلته بطلا قوميا في أستراليا.. من هو أحمد الأحمد؟    كيف سيكون الطقس هذه الليلة؟    فوز 11 تلميذا في مسابقات الملتقى الجهوي للصورة والسينما والفنون البصرية للمدارس الإعدادية والمعاهد    قفصة : إنطلاق الحملة الوطنية الأولى للكشف المبكر عن اضطرابات الغدة الدرقية    توفى بيتر غرين.. الشرير اللي عشنا معاه على الشاشة    الكاف : مهرجان "بدائل للفنون الملتزمة" يمنح جائزته السنوية التقديرية للفنّان البحري الرحّالي    شنيا حكاية المادة المضافة للبلاستك الي تقاوم الحرائق؟    إنشاء مجمع صناعي متكامل لإنتاج العطور ومستحضرات التجميل ببوسالم    الألواح الشمسية وقانون المالية 2026: جدل حول الجباية بين تسريع الانتقال الطاقي وحماية التصنيع المحلي    تاكلسة.. قافلة صحية لطبّ العيون تؤمّن فحوصات لفائدة 150 منتفعًا    8 أبراج تحصل على فرصة العمر في عام 2026    شنوّا حكاية ''البلّوطة'' للرجال؟    تنبيه لكلّ حاجّ: التصوير ممنوع    بدأ العد التنازلي لرمضان: هذا موعد غرة شهر رجب فلكياً..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا غنمت تونس من 17 ديسمبر.. أو المكاسب العشر في السنوات الخمس
نشر في حقائق أون لاين يوم 18 - 12 - 2015

أصوات كثيرة تتعالى و لعلّها تتبارى في تبخيس منجز التونسيين منذ 17 ديسمبر 2010، بعضها بفعل خيبة الأمل و الشعور بانسداد الأفق ، وهو حال فئات شعبيّة كثيرة ارتفع سقف أحلامها بُعيد انتفاضة الشعب ضدّ الطغمة الدكتاتوريّة التي انتصبت على رقابه خلال العهدين البورقيبي و النوفمبريّ ، ولكنّها لم تحصد إلاّ الهباء .. و بعضها الآخر وهو الأنكى يقصفنا به إعلاميّون من سِلال القمامة المحنطة ،و سياسيّون من الدرجة الصفر ، و جامعيّون أحيانا من ذوي الذاكرة المثقوبة أو الأحلام المعطوبة ، أو بقايا الخصاء الفكريّ الذي عمّ في فضاء القحل الأكاديمي و الجدب المعرفي ، فحوّل بعضهم مجرّد تقنيّي معرفة يرفعون هراوة سلطتهم إزاء طلابهم بدلا من أن يكونوا في طليعة من يستكشف للشعب طريق الحياة.
وفي ذكرى شرارة القيامة الديسمبريّة الخامسة ، نحتاج أن نجرُد الحساب دون جلد للذات ، ولا تضخيم للمخرجات . فمن أمارات البؤس ما نراه على أعمدة صحف الرذيلة الإعلاميّة و في جداريّات بعض صانعي الرأي من خبراء الاقتصاد المتكرشين و نشطاء الصفحات الإجتماعيّة من مفردات الصغارة نحو "ثورة البرويطة" و "جدلية البسكولة و البزولة" فضلا عن هراء نجوم فضائيّات لا تتجاوز مواهبهم محاورة الراحلة بوساحة أو وردة الغضبان أو التعليق على مباراة رياضيّة ، هذا فيما لو أفلحوا ،فكنتَ تراهم في كل حين ، يهرفون بما لا يعرفون.
وتقتضي الموضوعيّة على نسبيّتها تعداد ما تحقّق ،تنشيطا للذاكرة ، وكيدا لأراذل العمى الاستراتيجي، رغم الانتكاسات و الخيبات و الإكراهات ، و معطيات الفضاء الإقليمي و تحولات الواقع الدولي.
1 أوّل كسب لانتفاضة التونسيين تحطّم صنم القائد الملهم ، و الزعيم الفذّ ، و صانع التغيير، و المجاهد الأكبر، وصاحب العناية الموصولة ، وهلمّ جرّا ، فقد اكتشف الناس أنه لا مجاهدَ إلا الشعب . و عبثا حاول بعضهم العودة إلى مربّع "الزعيم المخلّص" و خاصة النفخ في مومياء مؤسس الجمهوريّة الذي انتصبت نظاراته من جديد على أنف الأستاذ الباجي قايد السبسي و حاول تقليده تارة في طريقة الحديث ، و طورا في استدعاء بعض آي القرآن ، و في محاولة تكريس الصورة الأبويّة طورا ثالثا .. لقد انهارت عمليّا هذه الخطة الاتصاليّة و غرقت في مستنقع تندّر الصغير قبل الكبير ، مؤذنة بعصر جديد و بتونس أخرى ممكنة رغم كل شيء.
2 ثاني غنائم هبّة التونسيين ، أن التداخل الذي وسم الفعل السياسي طيلة ستين عاما بين الحزب و الدولة ، قد ولّى ، فقد خاب أمل حركة النهضة بُعيْدَ انتخابات 2011 في أن تكون الدولة هي الحزب ، و الحزب هو الدولة وفشلت "أخونة الدولة" مثلما خاب مسعى نداء تونس بعد 2014 في استعادة "الأمجاد" ، أمجاد الهيمنة على الدولة لأسباب كثيرة لعلّ أبرزها وعي "تكنوقراط" الإدارة بدورهم المحوري ساعة هرب المخلوع و حصول فراغ مؤسساتي وهو ما حرّرهم نسبيّا من الاصطفاف الحزبيّ و أشعرهم ببعض من الاستقلاليّة (ما تزال في بداياتها).
3 و ثالثة الأثافي أنّ القضاء ما انفكّ بعد الانتفاضة يخوض أشرس معاركه عبر تاريخ تونس يَنشدُ استقلاليّته ، وهو يستكمل تاريخه المشرّف إجمالا لأنه كان منذ أمد بعيد في خندق مواجهة الدكتاتوريّة ، و الأمثلة على ذلك كثيرة ،،وهو الآن برغم محاولات الاحتواء و التقزيم و برغم معارك التقسيم و إسفين المتخاذلين يمثل بشكل عام حالة إيجابيّة لأن القضاة أدركوا أن التاريخ سينصفهم إن هم تصدّوا لدورهم باعتبارهم فعلا سلطة ، ولا نحسبُ صاحب سلطة شرعيّة في وارد التخلي عنها بعد أن حرّرته قيامة الجياع من سلطان الأوامر و إذلال الجنرال و عبث الزبانية ..
4 و رابع مكاسب الانتفاضة التي لا ينكرها إلاّ جاحد ، أن الأصوات الهادرة ذات يوم "بوزيدي" عنيد ، قبل أن تتسع لتصير صرخة القصرين الشهيدة و تشمل سائر مناطق بلادنا قد حرّرت أصوات الإعلاميين الذين بلعوا ألسنتهم دهرا ، و ما قالوا إلا كفرا ،فذاقوا بعض حلاوة الحريّة التي يكدّرها و سيظلّ بارونات المال و لوبيّات الأعمال . ولكنّ المشهد في عمومه ، رغم الزلات و السقطات ، حوّل بلادنا إلى حديقة من الصحف و المجلات وكذا الإذاعات و النشريّات و الفضائيّات ، فضلا عن الفضاءات الافتراضيّة . لقد صارت للإعلام سلطة جليّة ، وعبثا يحاول رهبان التاريخ من الحكام أمسِ و اليوم إعادته إلى بيت الطاعة رغم محاولاتهم التي لن تكلّ ، ذلك أن المعركة القادمة على مهل ستكون معركة "الجودة" بعد أن صار الصحفيّ يستشعر سلطانه الذي لن يقبل التفريط فيه عدا قلّة من الزعانف التي ألِفتْ الهوانَ فخنقتها ثمرة الحرية التي لا تقوى حناجرهم على ابتلاعها و لاتستسيغ أفواههم السقيمة عذوبتها.
5 و من فيْئِ نهوض الشعب ، و من مفاخر قيامته ، أنّ عهدَ السجون التي تعجّ بالسياسيين عبر التاريخ البورقيبي و النوفمبري القبيح قد ولّى ، و أنّ زمن الصحف المعطلة قد انقضى ، و أنّ المنافي لأصحاب الرأي باتت من الماضي . لقد دفع اليوسفيون و البعثيون و الناصريون و اليساريون الاشتراكيون والشيوعيون و الإسلاميون عبر تاريخ القهر ضريبة ثقيلة لأن آلافا منهم على اختلاف ألوانهم و مشاربهم ذاقوا ويلات تغوّل الحزب الدستوري في نسختيْهِ ، الأصيلة الأولى على أيام المجاهد الأكبر ،و صورته المسخِ على أيام الجنرال ..و تجرعوا و ما بالعهد من قدم مرارات محاكم أمن الدولة الاستثنائية وانتهاكات البوليس في قبو الداخليّة، و انتظروا هبّة الشعب التي حرّرتهم من الحزب الواحد فصار الانتظام السياسي ضمن الأحزاب و الجبهات و الائتلافات و كذا الجمعيّات أمرا واقعا لا تملكُ له السلطة ردّا بالرغم من اصطباغ المشهد بالعقم حينا و بالضبابيّة أحيانا ، ولكنها بالنظرة العامة بداية الطريق بما يسمها من تعثّر و يعتريها من عوائق . إن التعدّديّة الفعليّة كجزء من الحريات الأساسيّة باتت مكسبا من الإسفاف الاستهانةُ به أو تبخيسه ، لأنّه يمثّل نقلة كيفيّة في مستوى تطور الاجتماع الإنساني بما يوفره من تعزيز المشاركة السياسية لعموم الشعب بما يعني خروج الشأن العام من صالونات المثقفين و مطابخ القابضين على الحكم العفنة في جل الأحيان.
6 ولا أحسبني أجافي الحقيقة ، إذا زعمتُ أن فكرة ملاحقة الجناة و كشف الحقائق و فضح الانتهاكات وبذر ثقافة ترفض التهرب من العقاب ، ضمن مسار العدالة الانتقاليّة تُعدّ من مغانم انتفاضة 17 ديسمبر رغم كل اللغط الذي يحفّ بهذا المسار ، وكل الإبطاء الذي اعتراه ، وكل المطاعن التي يمكن أن نُجمع عليها . فلا مندوحة من الإقرار اليوم، أنّ المسار قد بدأ بسلطان القانون ، وأنّ المتربصين بالإعلام و بالقضاء هم أنفسهم من يتربّص بكشف الحقيقة ، ولن ينالوا غير الخيبة في سعيهم ، بصرف النظر عن المآخذ طيّبِها و خبيثِها التي ما انفكت تُستخدم قميصَ عثمان ليهنأ اللصوص بما نهبوا ، و يُفلت القتلة من تبعات جرائمهم . إنّ هذا المسار يختزل في "عنفه" الظاهريّ الرمزيّ الاعتباريّ حاجة التاريخ إلى العنف كي يتقدّم ، وهو على أيّة حال ألطف مع جلادي الأمس من المحاكم الثوريّة و المشانق و المقاصل ( رغم دورها الثوري في تاريخ شعوب كثيرة) .و ينبغي لهم أن يشكروا لهذا الشعب سماحته التي لم يتوقعوها أيام الانتفاضة ساعة انكفؤوا في جحورهم ،يتلمسون أعناقهم خشية القصاص وكلهم يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية .
7 من الغُنمِ الذي يستحقّ التنويه ،و إن كره الكارهون ، دستور الجمهوريّة الجديد .و يكفي أن نلتفتَ إلى محيطنا الإفريقي و العربيّ و الإسلامي لندرك فداحة الانتقاص من منجزات الانتفاضة الشعبيّة . صحيح أن المسار كان بائسا و أن الأثمان باهظة . ولكنّ بلدا يُعلي دستوره منظومة حقوق الإنسان ، و يُقرّ حرّيّة الضمير، ويُثبّتُ دولة مدنيّة في لحظة نكوص حضاريّة فظيعة في محيطنا و يُقرّ محكمة تنظر في دستوريّة القوانين ،ويؤسس مسارات انتخابيّة و سلطة محلّيّة ،،هذا المنجزُ (الذي لم تُستكمل أجزاء كثيرة منه) كان يبدو أمرا طوباويّا إلى عهد قريب لا تجرؤ غالبية النخبُ على مجرّد إحلام النفسِ به . يحقّ لنا كتونسيّين أن نُفاخر بأنّنا فعلا أوّل دولة عربيّة تدخلُ وإن على استحياء ، نادي الدول الديموقراطيّة ، وهذا بحدّ ذاته من أخطر رهانات اللحظة التاريخيّة لأنه سيحملنا صاغرين على توفير "الرفاه" للشعب لأنه شرط لا مناص منه كي تزهر الديموقراطيّة و تستمرّ (و تلك هي المعركة القادمة لأن من يحكمنا أفشل من أن يُؤمّنها ذلك أنهم جزء من ماضي تونس لا مستقبلها ). ويكفي أن نلتفت إلى مجتمعات عربيّة و إسلاميّة أخرى لندرك بجلاء أنّ تونس جاوزت رغم الويلات الشموليّة و الانتظام السياسي القروسطي الذي يحكم مناطق كثيرة باسم السلطنة أو الإمارة و الأسرة ...الخ.
8 لا ريب أن أحد أهمّ مكاسب هبّة الشعب قبل خمس سنوات ، إعادة رسم أدوار المنظمات المدنيّة و بخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل . ولسنا بصدد التذكير بدور هياكله الدنيا و الوسطى المشرّف خلال الانتفاضة ، ولا نحن بصدد التذكير بدوره المحوريّ في التعبئة بواسطة مناضليه و فضاءاته (المقرات) ، فذاك أمر معلوم ، ولكنّنا نشير إلى مخاطر حفّت بالبلاد وكادت تعصف بكل ما عدّدنا من فضائل الانتفاضة ،أي أخطر أزمة سياسيّة بعد فرار المخلوع في أعقاب اغتيال الشهيد البراهمي .و بقطع النظر عمّا قد يعتري جسم الاتحاد من فساد (ورثه من دولة الفساد) و بصرف النظر عن التفاصيل التي تحتاج قراءة مطوّلة في التسيير و الديموقراطية الداخليّة و التخريب البيروقراطي طيلة سنوات ، و الاصطفاف السياسي زمن الجنرال ....بقطع النظر عن هذا كلّه ، تقتضي الموضوعيّة الإقرار بدوره الحاسم في الانتفاضة و كذا في تجنيب تونس كارثة دمويّة فظيعة ذات صيف بائس. إنّ الدور الجديد الذي تبوّأه الاتحاد ، حوّله سلطة تعديليّة في لحظة هشاشة الفعل السياسي بعد قحط عقود ولا نخال جائزة نوبل التقديريّة إلاّ اعترافا لهذه المنظمة بالأساس ، ولكنّ اعتراف التونسيين هو الأوكد فيما نعتقد، رغم أهميّة الاعتراف العالمي.
9 لم تغنم تونس في نظرنا شيئا من انتفاضة 17 ديسمبر أهمّ من انكشاف فشل النمط التنمويّ فشلا ذريعا ، بعد سنوات من التطبيل ل"المعجزة التونسية" و بعد سلسلة الخيبات في تاريخ الدولة منذ لحظتها الأولى (خلافا لما يزعمه سجناء الماضي من ثقفوت التعاسة) بدءا بمحنة التعاضد وصولا إلى سياسة الهادي نويرة التعاقدية انتهاء إلى ما زُعم أنه إصلاح هيكليّ . سقطت أساطير جودة الحياة و التنمية المستدامة و التمكين للمرأة و ...
أفاق التونسيون على حجم الكارثة ( لا فقط في مؤسسات القضاء و الإعلام و الصحة و التغطية الاجتماعيّة وترتيب جامعاتنا) فقد وجدنا ما يقارب 5 مليون تونسي لم يُجاوزوا التعليم الابتدائيّ بعد أن صدعوا رؤوسنا بإسطوانة "بورقيبة قرانا" و اكتشف الواهمون في الزمن النوفمبري من المتصالحين معه (يمينا و يسارا) أن في بلادنا 2 مليون أمّي في زمن الرقمنة و الثورة الاتصالية ،و أنّ نسبة البطالة (في عهد المخلوع أخزاه الله) بين 13 و 14 بالمائة (وهي الآن 15.2) و اكتشفنا ، يا للهول ، أن التهرب الجبائي في دولة الفساد و الإفساد مع زبانية المافيا و عصابات العائلة الحاكمة قد بلغ 10 مليار دينار سنويّا ، أي ضِعفَ ما تستدينهُ الدولة سنويّا تقريبا . و انكشف حجم الخراب في الصحة و بات معلوما أن جنرالات من صنف آخر يتحكمون بهذا المجال الحيوي ..و اكتشفنا حجم الخراب الذي لحق فلاحة مطمور روما ، لأن بلادنا تستورد في سنوات الخصب ثلث حاجياتها من القمح (وهو القطاع الاستراتيجي المهمّ ) و أدركنا بعمليّة حسابيّة بسيطة أن 350.000 موطن شغل خارج حدودنا تُوفّر لنا وارداتنا من الغذاء . أي أنّ تونس تشتري البطالة بالعملة الصعبة و تخربُ اقتصادها بنفسها . وهكذا ، سقط ورق التوت عن الدكتاتوريّة التي لا يمكن أن تصنع التنمية لأنها ببساطة لا تعيش في غير عفن الفساد.
10 ومن أجلّ ما كسبته تونس في سنواتها الخمس ، وهي مفارقة مؤلمة ، ضعف العامل الذاتي لقوى التقدم ، وهو الضعف الذي أعاق الانتفاضة فلم تصل إلى مرحلة الثورة التي تحدث تغييرات جوهريّة . و الأنكى أن عددا غير قليل من المثقفين (مجازا و جوازا) باتوا يُجرّمون النهوض الثوريّ و يتوهّمون ( عامدين حينا ، و مغفلين حينا آخر) أن الانتفاضة هي سبب الأزمة الاقتصاديّة و أنها سبب التهديدات الإرهابيّة و أنها لم تجلب غير الخراب و اليباب. هؤلاء ، يحملون أسلحة تطلق للخلف ، ويمثلون الآن اخطر إرهاب فكريّ يسحب الثقة من المستقبل . بل إن هؤلاء تخلّوا عن دورهم الطليعي و خانوا أمانة التاريخ ، لذلك انتخب الشعب سنة 2011 ماضيه القصيّ البعيد، ثمّ انتخب في 2014 ماضيه التعيس القريب . وحين لا يُرسمُ للشعبِ طريق الخلاص ، لا ينبغي أن نلوم غير نخبته التي تنادت إلى المخلّص القادم من غياهب التاريخ أو القادم من مومياء السياسة.
ولسنا نرى أفقا لتونس ، يحفظُ ما كسبت ، غير الاعتراف بأن النخبة السياسيّة بكل مكوّناتها الحاليّة ليست غير جزء من النظام القديم ، فرّ رأسه يوم 14 جانفي و ترك منظومته موالاة و معارضة ، يمينا و يسارا ،،لأنهم عجزوا جميعا عن طرح منوال تنمويّ جديد ينقل تونس من دولة العبيد إلى دولة المواطنة الديموقراطيّة ضمن سياق التطور التاريخي الحتميّ.
على سبيل الخاتمة:
ولكن ، هل يكفي أن نلعن الظلام ؟ بالتأكيد لا . إن المهام الثوريّة الحقيقية العاجلة الآن ، هي المبادرة إلى تقديم مشروع تنمويّ حقيقيّ يقطع جذريّا مع المنظومة التي اعتمدتها الدولة منذ 1956 لأنها ببساطة فاشلة . إننا الآن بحاجة إلى مشروع وطني جامع ، يُوحّد التونسيّين حول برنامج ناجز ( قابل فعليّا للتحقّق) عنوانه الأوّل إدماج الهامش الاقتصادي (أكثر من 50 بالمائة من الاقتصاد) و إدماج الهامش الاجتماعيّ ( الأرياف و أحزمة المدن) و عنوانه الثاني تنويع الشراكة مع الخارج ( عدم الاقتصار على الشريك الأوربي ) و إطلاق المبادرة الحقيقية أمام المؤسسات الصغرى و المتوسّطة عوض تركها فريسة للحيتان الكبيرة و الفاسدين و المتهربين.
ولا نرى هذا المشروع ممكنا إلاّ بجسم سياسي لا يُدينُ الايديولوجيا و لكنّه لا يشترطها أساسا للنهوض بالبلد . أمّا التباكي على "الأمن و الأمان" و الزعيم المؤسّس، ومواصلة حفلة حثو التراب و شق الأثواب على ما فات، فلا تخدم الناس و لا تعيد عقارب الزمن .آن الأوان أن نضرب صفحا عن التبخيس و التيئيس ، وأن نخرج من قمقم نظريّة المؤامرة لأنها هي نفسها مؤامرة ( ليس يعني هذا غياب النفوذ الأجنبيّ ، لكنّه على العكس يزداد كلما ضاعت بوصلتنا نحو التقدم و التنمية) وأن نؤمن بأن تونس مختلفة ممكنة و أن الشباب لا يحتاجون اليوم الألسنة الجبانة ، و عقول المهانة ،يحتاجون خيارا وطنيا مفتوحا أمام الجميع يفتح بوابات التاريخ أمام هذا الشعب و يحقق فعلا مطالب الثائرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.