في حين كان الجميع يتابع حوارات المجلس الوطني التأسيسي، ويرصد توجّهاته، ويسمع آراء كبار أساتذة القانون الدستوري،ويلاحظ ما يجري من صراعات داخل وخارج المجلس، ويشعر بقوّة بحصول انقلاب كامل على الوعود المقطوعة قبل الانتخابات بمدنية الدولة وحقوق الإنسان الكونية والمساواة في المواطنة، وكانت القلوب واجفة والأبصار شاخصة ترقب المجهول المعلوم استنتاجا ,فوجئنا بإعلان السيّد رئيس المجلس التأسيسي عن الانتهاء من المسوّدة الثالثة للدستور،مبشّرا بأنه من أفضل دساتير العالم، وأحسن من دستور 1959. تساءلت في حيرة إن كان السيّد رئيس المجلس مازحا، وغلبت عليّ فكرة تنزيهه . عدتُ إلى البحث لفهم الصواب واعتمدت الاجتهاد والرجوع إلى مسودّة الدستور، مستلهما ما يمكن أن يساعدني لفهم جديّة السيّد رئيس المجلس. واعتمادا على قاعدة الصدق السياسي وجدت أنّ دستورنا هو من أحسن دساتير "العالميْن"، باعتبار أنّ العالم مصنف إلى ثلاثة عوالم: المدني المتحضر المتقدّم – السائر في طريق النموّ – والمتخلف، ولأنّ المقارنة لا تصحّ مع الأوّل فهي ممكنة مع الأخيرين. أمّا كونه أحسن من دستور 1959 فالفارق الزمني وسرعة التطوّر لا تسمح بالمقارنة، فلكلّ فترة خصوصياتها، و قد كان دستور 1959 مفخرة عصره بحق وحقيقة خاصّة في مجال حقوق المرأة وها أننا بعد نصف قرن وجدنا أنفسنا نقارن به، وهذا مؤسف حقا ويبرّر للبكاء كما فعلت السيّدة عبّو حزنا على حالنا. من خلال المتابعة كان واضحا أنّ الخلاف داخل وخارج المجلس ينحصر بين مدافعين عن فكرة حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصّة مشمول في ذلك حق التديّن، وهو ما يعني النظام المدني، وبين من يحملون مشروع حماية الإسلام و إقامة الدولة الدينية . مسوّدة الدستور جاءت واضحة في حماية الإسلام وتغييب المواطنة وحقوق وحريّات الأفراد المدنيّة، إذ بقراءة متأنيّة يتبيّن كيف تعطى الحقوق في فصل لتسحب في غيره لاحقا، وكانت الفصول متعارضة تعطي ثمّ تنزع إلى أن انتهت في مجملها إلى أمر واحد وهو أنّ الإسلام دين الدولة وعليها واجب الحكم وفق شريعته، ولا وجود لأيّة حقوق مهمّة للفرد مسلما كان أو غير مسلم خارج الإسلام وما يوجبه من طاعة للأمير صاحب السلطة المطلقة. لا أعتقد أنّ نيّة الناخبين للمجلس كانت هذه، لأنهم عالمون بأنّ لكلّ ديانة كتابها المقدّس وليست في حاجة إلى دسترة هذا الدستور، وكان مطلبها سنّ دستور مدني ينظم العلاقة ويضمن الحقوق والواجبات المدنية الدنيويّة، وهذا لم يحصل مع الأسف. إنّ العداء للإسلام فكرة يحملها البعض إمّا توهما أو وراثة من الثقافة السابقة وإمّا للاستغلال، ولا وجود لها في الواقع، وإن وجدت فلا تشكل خطرا، بل أنّ محاولات حماية الإسلام أو أيّ دين بالقوّة والقهر هو الخطر الأكبر لأنه ينفّر الناس من الديانة. لا شك في حسن نوايا الجميع وكان الأولى أن يحصل تشاور مسبق لتأكيد وحدة الاتجاه والهدف، وبأنه لا توجد عداوة للأديان باعتبارها غاية وجود الإنسان في هذا الكون ولا صلاح له بدونها ولكنها تبقى مسؤولية الفرد وعلى الدولة حماية هذا الحق وفتح المجال أمام حرية الأتباع لنشر العقيدة لرفع الجهل بها . غياب هذا الحوار دفع الأمور إلى الصراع كلّ يدافع عن مشروعه الخاص في بلد ومجتمع واحد، فضاع الجهد والوقت والمال وزادت الخلافات والضغائن، والحمد لله أنّ الفرصة ما زالت أمام مجلسنا لحوار جديد يعيد الثقة بين الجميع لسنّ دستور يناسب حضارة تونس وشعبها، لأنّ مسودّة الحال لا ترقى إلى مرتبة الدستور لدولة عصرية شعبها متحضر يميز جيدا بين ما لله و ما لقيصر. فالمسودّة أقرّت في فصلها 136 أنّ الإسلام دين الدولة وبذلك حسمت في هويّتها الدينيّة. - و دستورنا الأحسن : حرم غير المسلمين من التونسيين من حق الترشح لرئاسة الجمهورية الذي خصّ به المسلمين دون سواهم وفق الفصل 72، وهذا تمييز ديني يتعارض مع مبدأ المساواة في المواطنة الواردة في التوطئة والفصلين 2 و 6 من المسوّدة ومع حقوق الإنسان الكونية. - ورهن استقلاليّة القاضي بكبّالة ثانية لم تكن في الفصل 25 من دستور 1959 المدني وهي التقيّد بالدستور، ما يعني ثوابت الإسلام الأساسيّة باعتبار علويّة الدستور على القانون وعلى المواثيق الأمميّة كما جاء في الفصل 21 من المسوّدة. - وألغى كلّ الديانات ولم يسمح لغير المسلمين بأكثر من حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينيّة كما جاء صراحة في الفصل 5 من المسوّدة ونصّه : "الدولة راعية للدين" والجميع يعلم أنّ مفهوم كلمة الدين عند المسلمين لا تعني غير الإسلام المحمّدي ولا تعتبر غيره دينا، سواء ذلك بصراحة الفصل أو بالاعتماد لاحقا على قاعدة الاجتهاد والتأويل وفق الفصلين 138-139 من المسوّدة، فإنّ الدولة الدينية لا تحمي ولا ترعى إلا الإسلام دين الأغلبيّة، ولذلك استعملت كلمة "الدين" معرّفة، وكان المفروض أن يقال: راعية للأديان. - ولم يذكر في فصله 14 تحييد المؤسسات التربوية ومناهج التعليم عن الأديان ولم ينصّ على وحدة التعليم. - يقرّ التمييز بين الجنسين بتعمّد التصنيف "المواطنون والمواطنات"، "المرأة والرجل" وفق الفصل 11، والحال أنّ كلمة المواطنة في الأنظمة المدنية تلغي كلّ تصنيف أو تمييز على أساس الجنس أو الدين أو اللون، فالكلّ "مواطنون" وكانت مفردات التمييز المقصود منها الاستنقاص والدونيّة والتحقير، وهذه المقاصد لم تعد مقبولة ولا لائقة لهذا العصر. - وفي فصله 31 يقيّد الأحزاب والنقابات والجمعيّات في أنشطتها بأحكام الدستور وهو ما يعني التزامها بثوابت الإسلام وأحكام الشريعة باعتماد النص والاجتهاد والتأويل. - ويحدّ من حق وحريّة الإضراب الفصل 33 ويسمح بالحق النقابي، أي يسمح بالأكل دون استعمال الفمّ واليدين. - ولعله من أعظم ما تميز به دستورنا في القرن الواحد والعشرين الفصل 39 منه الذي يضمن للمواطن الحق في الماء، فهذا الامتياز ورغم أنه لم يعرّف نوع الماء فهو مدعاة للافتخار، شأنه شأن الفصل 41 القاضي بالحق في الثقافة. وإذا كان هذا الأحسن في العالم فما هو الأسوإ للتونسيين و خاصة لغير المسلمين منهم ؟ أستحضر بالمناسبة كلمة قالها الزعيم الهادي نويرة رحمه الله في خطاب له بولاية مدنين إبان الخلاف البورقيبي الناصري قال : "كن تونسي ثم كن ما شئت". وأجدني ولعل الشعب التونسي في جزء كبير منه يقول، والخطاب موجه إلى مجلسنا التأسيسي "كونوا مدنيين ثمّ كونوا ما شئتم". أتمنى على أتباع الأديان جميعا كأفراد وقد توفرت لهم المعرفة وانتشر التعليم أن يعودوا إلى جوهر كتبهم المقدّسة وسيرة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم لينهلوا من ثوابتها الرحيق المختوم الواحد في جميعها وهو عرفان الله وعبادته والتخلق بخلقه الكريم وخدمة الإنسانية والصالح العام قابلين بزينة الاختلاف، وأن ينزعوا عن أفكارهم العداوة والكراهية للآخر ويراجعوا الأحكام الشرعية الظرفية التي زالت بزوال أسبابها. إنّ مجتمعات اليوم بحاجة إلى الوحدة والصفاء والجهد الموحّد لتحقيق الحضارة الكونية الجديدة، ويقيننا استنادا إلى التاريخ وسنة الله أنّ الشمس تغيب لتشرق من جديد، وأنّ إرادة الله غالبة على كلّ غالب، والحياة مستمرّة والبقاء لما ينفع الناس. ____________________________________________________ ** محمد بوسريرة ، مواطن تونسي ينتمي الى احدى الاقليات الدينية في تونس.