ما يزعجني حقيقة في سلوكات من يطلقون على أنفسهم الديمقراطيين أو المعارضين في تونس هو تلك الطريقة التي يرون بها الأشياء، ولأكن أكثر دقّة فأقول المنظار الأسود الذي لا يمكّنهم أن يروا شيئا.. ولأفصح أكثر فأكثر – حتّى أقطع الطريق (ولحسن الحظّ أن قطع الطريق لم يعد جريمة في تونس العهد الجديد) على التأويلات المغرضة والنوايا المبيّتة – فأقول، أنهم ينظرون دائما إلى نصف الكوب الفارغ، وهو ما سأقيم عليه الدليل لاحقا. لكن يجب قبل ذلك أن نعي أن المسألة تمثّل منهاج تفكير أو فلسفة أو تفلسفا عدميّا لدى هؤلاء وجب أن نقابله بمنهاج مضادّ، وفلسفة معاكسة، وتفلسفا بنّاءا ينبض بالإيجابيّة يزخر بالانفتاح والحماسة. لنأخذ مثلا حادثة جدّت منذ أيّام، حين قام أعوان أمن بالاعتداء على الصحفيّة فاتن حمدي في الشارع. لقد قامت قيامة من يحسبون أنفسهم على الحركة الديمقراطية مندّدين بهذا الاعتداء معتبرين إيّاه استهدافا للأصوات الحرّة إلى غير ذلك من الشعارات التي يصدّعون بها الرؤوس بمناسبة وبدون مناسبة، مكرّرين بشكل ممجوج تلك الطقوس العدميّة دون أن ينتبهوا للنصف الثاني من الكوب. فلو تفكّروا قليلا لانتبهوا إلى أن الاعتداء استهدف امرأة وهو ما يؤكّد ترسّخ قيم المساواة بين الجنسين لدى رجال أمننا فلا فرق لديهم بين ذكر وأنثى، وهو لعمري غاية المنشود في بلد يفخر أنه بلد الأمن والأمان، فأيّ ضمان للمساواة أكبر من أن يتساوى في نظر رجال الأمن الرجل بالمرأة؟ ولقد سبق لنساء مثل غزالة المحمّدي وسهام بن سدرين وزكيّة الضيفاوي أن عرفن طعم المساواة الأمنيّة في تونس قبل فاتن بزمن طويل، إلاّ أن ديمقراطيّينا لا يرون من الكوب إلاّ نصفه الفارغ. وهو لعمري أمر جدير بالإشادة أن يعبّر رجال أمننا – وهم كما يعلم القاصي والدّاني، قوام نظامنا العتيد، وأسّ أسسه – عن مدى استيعابهم لمبدإ المساواة بين الجنسين فلا فرق لديهم بين أنثى وذكر إلاّ بالطّاعة. والطاعة باب آخر لا يفقهه ديمقراطيّونا العتاة، فينادون بحقّ الاختلاف، وحقّ التعبير عن الرأي... ومن حرمهم حقّهم ذاك؟ فكلّ يوم يعبّرون ويصرخون ويشتكون ويقولون وأحيانا يفعلون... لكنّهم يطبّقون المبدأ على أنفسهم ويرفضون أن يقاسموه غيرهم، فحين يعبّر نظامنا عن رأيه يغضبون، بل ويتهمونه بالديكتاتورية... ولا ينتبهون إلى أن لكلّ شخص طريقته في التعبير، ولئن واجههم النظام بالعنف، فإن تلك هي طريقته في التعبير عن موقفه. وليس هذا من باب اختلاق الأعذار، فقد أكّد علماء النفس أن العنف تعبيرة كغيرها من التعبيرات وأننا يجب أن نفكّك مفردات العنف لنفهم الرسالة الكامنة وراءه. لكنّ ديمقراطيّينا يقفون أمام النصف الفارغ للكوب كعادتهم ولا يذهبون لأبعد من ذلك، ولا يحاولون الاستماع إلى رسالة خصمهم الكامنة بين الهراوة والقبضة. وترى أولئك الناعقين في غير موطن الخراب يصرخون بالويل والثبور متى سعى راعينا إلى حماية شياهه الضالّة وإعادتها إلى حظيرة الطاعة، من ذلك ما حدث مع شرذمة من الطلبة خرجت تصرخ بحقّها في الإيواء والسّكن، وهو ما استجاب له راعينا الحكيم، فآواهم وأسكنهم وحماهم من غائلة الزمن داخل أحكم الجدران. سيقول أولئك المتشائمون بطبعهم أنه سجنهم، ولا يرون من الكوب غير نصفه الفارغ، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن الحكمة المقدّسة التي تقود مشيئته حفظه الله، ودون أن ينتبهوا أنه لم يفعل سوى الاستجابة لندائهم وتنفيذ رغباتهم. ولنضرب مثلا آخر، ففي محاكمة من بقي من مخرّبي الحوض المنجمي، منع غير المحامين من حضور المحاكمة، فنعق الناعقون أن المحاكمة خلت من شروط العلنيّة وأن السلطة ضربت حقوقا دستورية، فلم يروا من الكوب إلا نصفه الفارغ. ولم ينتبهوا أن المحامين على الأقل سمح لهم بحضور المحاكمة، أفليس هذا أمرا إيجابيّا؟ ثمّ لنفترض جدلا أن الجميع سمح لهم بالحضور أفلن يتسبّبوا بازدحامهم في قاعة المحكمة بحدوث ما لا تحمد عقباه؟ فقد يتسبّبون في نقصان كمّية الاوكسيجين داخل القاعة، وقد تتأثر هيئة المحكمة الموقّرة بهذا النقص، ونحن نعلم أن نقص الأوكسيجين يسبّب الهلوسة (واسأل متسلقي الآلب) وبما أن العدالة "عمياء" أي أنها تفتقد لإحدى أهم الحواس فمن الخطر كلّ الخطر أن نفقدها حواسّها الأخرى أو أن نؤثّر عليها، إذ ربّما تتأثّر حاسّة الشمّ لديها فتشتمّ روائح مؤامرة دوليّة أو خيانة لا سمح الله وتكون العاقبة وخيمة. أو ربّما تأثّرت حاسّة السمع، فتجد الوشوشات وهمسات الظلام شهادات تعتمدها، أو ربّما استمعت إلى مرافعة غير المرافعة، فيجرّم المحامي حريفه أو يدافع الادّعاء عن خصمه ويبرّئ ساحته... وهو ما سيخرب ميزان العدالة ويخلّ بمبدإ العدل الذي هو أساس العمران. وطبعا، يتجاهل الناعقون بحقوق الإنسان هذه الحقيقة ولا يرون في الأمر غير نصفه السيء. ويمكن أن نعدّد الأمثلة إلى ما لا نهاية، لكن هدفي ليس الثرثرة بقدر ماهو الدعوة لفلسفة مضادّة تقطع مع التشاؤم والسلبيّة والسوداويّة، فماذا نخسر إن كففنا عن النظر إلى نصف الكوب الفارغ وتطلّعنا إلى نصفه الآخر، ولئن كان النصف الآخر فارغا بدوره فيجب أن نفكّر أن الكوب إذا امتلأ فاض، والفيضانات كما يعلم الجميع كارثة ومصيبة إن حلّت... وقس على هذا، واعمل بما قال أبو هريرة المسعدي: "كن زهرة وغنّ !"