على حين غرة استفاقت مدينتنا الساحلية الهادئة على نبإ مفاده أن مولانا "الحاكم بأمر الله" سيحل بالبلدة للقيام بزيارة من زياراته الميمونة لتفقد أحوال الرعية وأن وصوله لن يستغرق إلا بضع ساعات. ارتبكت فرائص أعيان البلدة واهتز كيان السلطة المحلية ..تجهّمت الوجوه واختنقت الأنفس و تسارعت نبضات القلوب و الأفئدة و تمزقت المشاعر بين رغبة القرب من حاكم الزمان و بين الخوف من بطشه. على التوّ أصدر حاكم المدينة أوامره الصارمة للمسؤولين من رؤساء المصالح وأعوان السلطة ..الأمن السياسي و المحلي و غيرهم من أولياء الأمور و خدام العتبات داعيا إياهم جميعا للحضور في اجتماع فوري و طارئ و أن لا أحد معذور في تخلفه."الأواكس" هو الشخصية الأهم في البلدة، .. سمي كذلك لكثرة تنصته و رصده لهذه و تلك إلى حد لا يكاد يغادر كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها ..معروف بتتبعه للمناؤين "لأمير المؤمنين" الناكرين لفضله..توقف في تلك الصبيحة لبرهة وجيزة فوق عتبة منزله وهو ينفض عن شاربه بقايا من طعام الفطور الذي تناوله بعجلة منقطعة النظير ..رمقته أعين المارة و تبادلت الهمسات و تعالت ضحكات الأطفال..أطلت الجارة "كرم" برأسها من الشرفة المقابلة و انتابتها موجة من القهقهات المتتالية..تناهت أصوات الهرج و المرج إلى أذان زوجته التي فتحت الباب على مصراعيه و سحبت الرجل بقوة من ظهره إلى فناء الدار ..أومأت بإصبعها إلى قدميه و قد استبدت بها ثورة غضب غير معهود.. تطلع بنظرة خاطفة إلى الأسفل مذهولا .. كان يرتدي خفي زوجته و تمتم :" اتفوه..الله يرزينا فيه". كانت السيارة" المكتنزة" تعدو بسرعة مثل السهم في اتجاه مقر الاجتماع.. ترجل منها أكابر قوّاد المدينة.. سار " الباشا" لبضع خطوات مترنحا في مشيته غير أن أحد مرافقيه نبّهه إلى ان فتحة سروال بدلته العسكرية فاغر فاها.. و من غير أن يبالي، سحب سلسلة الفتحة إلى الأعلى و قد عبست ملامح وجهه" اتفوه.. الله يرزينا فيه" بداخل قاعة الاجتماعات الكبرى جلس المدعوون و قد علاهم صمت رهيب، استوي الأقرع بجانب والي المدينة بجبته الشفافة، ناصعة البياض ..تهاوى جدار الصمت بمجرد أن تبادل الحاضرون نظرات وهمسات هازئة ،..فطن حاكم المدينة لما يدور حوله و أدرك مغزى الإشارات ثم تمتم بكلمات خافتة للجالس عن يمينه دون أن يلتفت إلى ناحيته..تطلع الأقرع إلى جبته.. هز حاجبيه و علت وجنتيه حمرة شديدة من هول الموقف ثم اتجه إلى المرحاض و خلع جبته المقلوبة ثم ارتداها من جديد وهمس "اتفوه .. الله يرزينا فيه" تجاذب الحاضرون أطراف الحديث و أدلى كلّ بدلوه و في الختام هز الوالي رأسه الضخم وخاطب الحاضرين :" اريد أيها السادة ان أرى المدينة و قد ارتدت حلل الزينة و طُهّرت من المعارضين، ناكري النعمة والكافرين بمزايا وليّ الامر .. حتى ننال رضاه و الحضوة عنده. و بثت الزرابي داخل خيمة عملاقة نصبت خصيصا للزائر وحاشيته.. اقتلعت أشجار الزينة من ضواحي المدينة و شحنت في الناقلات ثم أعيد غرسها على امتداد الشوارع الكبرى و الساحات العمومية و ملتقى الطرق الرئيسية.. و في كل مكان يتوقع أن يحضى بالزيارة... تأخر الموكب ..بدأ القلق ينتاب الحضور .. عمّ الهرج والمرج، بسبب الانتظار والقلق و الترقب المرّ و الخوف من الزيارة المفاجئة...جاء وقت الأخبار! ..أعلن المذيع أن "أمير المؤمنين" قام بالزيارة الموعودة لرعاياه الذين كانوا يحمدون فظله و يسبّحون بحمده. و بعد أيام تلقّى الوالي البرقية التالية:" بناء على الزيارة الميمونة لمولانا "الحاكم بأمر الله" لبلدتكم الموقرة، و ما أظهرتم من " حميد خصال و كرم ضيافة" و حسن استقبال وحفاوة، وما أبد يتم من واجب الطاعة وخالص الولاء و جسامة التضحيات، و قدرة على الامتياز و رفع للتحديات التي يندى لها الجبين من أجل خدمة رعايا مولانا "الحاكم بأمر الله" تقرر ترقيتكم إلى" أعلي عليّين" و عليه فيتعين عليكم فور توصّلكم بهذا الخطاب الالتحاق بالمقرّ المركزي بعد تسليم مهامكم لمن يخلفكم.. و به وجب إعلامكم والسلام". جمد الدم في عروق الوالي و سرت رعدة قوية في أوصاله و ضرب كفّا بكفّ ثم غمغم في غور ذاته " اتفوه .. الله يرزينا فيه". البحتري