كثيرون هم من ينتقدون أداء النهضة هذه الأيام… ويرون فيه خروجا عن مبادئها وارتماء لها في أحضان أعدائها وأعداء الشعب من بقايا رموز النظام السابق وكل أتباعهم وأنصارهم… ويتعجبون ويستنكرون من تحالفها مع نداء تونس…ومن اكتفاءها بوزارة وحيدة لا تتماشى مع حجمها السياسي والانتخابي …ومن استماتتها في النأي بنفسها عن كل المعارك السياسية والاجتماعية الدائرة في البلاد.. ومن مساندتها الغريبة لحكومة الصيد الفاشلة … ومن مجاراتها للكثير من القرارات الغير شعبية والمسترابة والتي يشتم منها رائحة الصفقات الفاسدة التي يتم سنها بدعم كتلة النهضة في البرلمان … و أخيرا وليس آخرا من الحضور البارز لشيخ وزعيم الحركة "راشد الغنوشي" لمؤتمر حركة النداء والذي حضي بترحيب كبير من قبل الحضور أصاب الكثيرين بالصدمة مما حمل أحد القياديين من النداء على تقديم استقالته احتجاجا على تلك الحفاوة و تلك الشعبية التي يتمتع بها الرجل داخل هياكل وقواعد حزب النداء؟؟؟ ولكن هل إن كل هذا الذي يحدث وكل هذا الذي نراه من معسول الكلام ومن إطناب في الحديث عن التوافق وعن التناغم ومن تأكيد على الوحدة والقبول بالآخر هو نتيجة تغير جذري في رؤية النهضة للأمور وفي رؤية من تشاركهم في الحكم أم أن ما نراه هو نتيجة إكراهات ظرفية وحسابات وتكتيكات سياسية ؟؟؟ الواضح للعيان والأمر الذي لا يخفى عن إدراك أي متابع واع للأمور أنه ليس من السهل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب بين عشية وضحاها وأن تتحول العداوة إلى محبة والكره إلى توافق والإلغاء إلى تكامل… فمنذ أشهر قليلة ماضية كانت النهضة تمثل رأس الإرهاب والغلو والتطرف للكثير من المعارضين السياسيين واللذين تكتلوا فيما أطلق عليه "جبهة الانقاذ" تلك الجبهة العريضة التي تشكلة حول النداء وبزعامته وضمت جل الطيف السياسي المعارض بتونس بكل أطيافه تقريبا من أجل الإطاحة بالنهضة بأي ثمن كان و سعيا إلى تقزيم حجمها وربما حتى إلغائها إن أمكن.. على غرار ما حدث في مصر لحزب الإخوان وإن بأشكال مختلفة ولا ننسى تلك الدعوات التي أطلقتها تلك الجهات مسخرة لها كل آلتها لاإعلامية الضخمة "عقبت اغتيال الشهيد البراهمي" والتي كانت تدعو المواطنين للخروج إلى الشوارع وإعلان العصيان المدني والإطاحة بالحكومة …ولا ننسى أيضا ما كشف عنه رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي في تلك الفترة من محاولة انقلابية كانت تهدف للتخلص من النهضة بدرجة أولى ومن كل ما تمخض عن الثورة بدرجة ثانية …. كما أنه ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نصدق بسهولة أن النهضة التي كان جل رموزها يحذرون من عودة التجمعيين للحكم و من انقلاب الأزلام على الثورة و ينددون بمعاداة العلمانيين للإسلام ويتهمون النداء ومن لف لفه بالكيد لهم وللثورة وللبلاد من أجل إجهاض الثورة وبعرقلة كل محاولاتها للإصلاح والتنمية حتى وصل الأمر بأحد أبرز رموزهم إلى وصفهم بأنهم أكبر خطر على البلاد وأن خطرهم " وخاصة النداء" يفوق خطر الإرهابيين الواردين من خارج البلاد… قلنا أنه من الصعب أن نصدق أن كل هذا تغير وأصبح فجأة محبة وشراكة وتناغما وتوافقا …بل أكثر من ذلك فإننا أصبحنا نرى كيف يتغزل رموز كل فريق بخصال وشمائل ووطنية أبناء وقادة الفريق الآخر… عناق ومقابلات ومصافحات واجتماعات ومشاورات وصور تذكارية… يا سبحان مغير الأحوال ومقلب القلوب… ولكن لقائل أن يقول كيف و لم حدث كل هذا؟؟؟ وما هو السر الكامن وراء هذا الانقلاب المفاجئ لكل ذلك الإرث من الأحقاد والعداوات والريبة والكره إلى ما يشبه التكامل والتشارك وحتى التطابق؟؟؟ هل هي صدمة ابستيمولوجية جعلت كل فريق يدرك وإن متأخرا مدى خطئه في فهم الطرف الآخر واكتشافه فجأة لمدى روعة ومصداقية ونبل الطرف الآخر؟؟؟ أم أن ما يحدث هو نتيجة اقتناع كل طرف بأن الظرف اليوم لا يسمح بغلبة أي منهما على الآخر وأنه لا بد من الانحناء قليلا حتى تمر العاصفة … ثم بعد ذلك يتم التعديل حسب مجريات الأمور؟؟؟ أم أن كل ما نراه هو نتيجة حسابات سياسية دقيقة لموازين القوى بالداخل والخارج ولضغوطات من مختلف اللوبيات والقوى الكبرى المؤثرة في الواقع التونسي للمضي في هذا النهج بالقفز على كل العدوات والخلافات ولو في الظاهر فقط؟؟؟ أو ربما أن الدافع لهذه الشراكة هي جملة هذه الإكراهات مجتمعة؟؟؟ ربما. لكن الأكيد والواضح اليوم أن الطرف الأكثر حنكة والأكثر قدرة على المناورة وعلى التخطيط وأيضا على كسب نقاط هامة على حساب منافسيه و في سلاسة غريبة ودون آثار جانبية عليه (أو هكذا يحاول أن يبدي نفسه) هو النهضة… فالنهضة رغم كل ما مرت به خلال فترة حكمها عقب الثورة من عراقيل ورغم تجيش جل القوى السياسية وحتى غير السياسية ضدها فإنها نجحت في أن تخرج بأقل الأضرار من تلك المعركة… ثم أنها نجحت في أن تفرض نفسها على ألد أعدائها وأن تجعلهم يأتونها صاغرين لخطبة ودها عارضنا مهرا لها على ذلك مشاركتهم في الحكم … ثم إنها نجحت في المحافظة على تماسكها في حين تمكنت من شق صفوف الجبهة العريضة من الأحزاب التي تكتلت ضدها يوما ما في ما سمي أن ذاك " بجبهة الإنقاذ" كما نجحت في نتف ريش الكثير منهم وتقزيمهم … كما أنها تجنبت أن تتعرض لما تعرض له غيرها في تجارب أخرى في المنطقة خاصة في مصر وليبيا… ثم أنها نجحت اليوم في أن تكون رقما صعبا في المشهد السياسي بالبلاد ومحور العملية السياسية برمتها رغم تظاهرها بعكس ذلك…. إن ما يحدث اليوم في حركة نداء تونس من تآكل وانشقاق وتفتت " والذي نعتقد أنه سيستمر ويتعمق رغم عقدهم لمؤتمرهم الأول " هو نتيجة طبيعية لفشل هذا الحزب وقياداته في مجارات حليفها اللدود حركة النهضة وعدم تمتعه بنفس وضوح الرؤية ونفس طول النفس الذي تتمتع به. إن حضور شيخ وقائد الحركة "راشد الغنوشي" للمؤتمر الأول لشق من شقوق نداء تونس هو تأكيد على عبقرية ودهاء الرجل… لقد جاء الشيخ ليرى بأم عينه ثمرة تخطيطه وصبره وطول نفسه ويؤكد لأنصاره والمشككين في أسلوب إدارته للأمور أنه يسير في النهج الصحيح وأنه يواصل حصد الانتصارات … فهاهو يحضر ضيفا مبجلا على مؤتمر ما بقي من حزب النداء هاهو يحضا بترحيب كبير من قبل من كانوا يسبونه بالأمس … وهاهو يخطب فيهم وسط عاصفة من التصفيق .. وهاهم يتهافتون على أخذ الصور معه… بعد هذا الانجاز الباهر… كل ما تبقى هو مجرد تفاصيل… فالنهضة اليوم واقعيا وفعليا .. ودون كل ذلك البهرج والتهريج… الحزب الأكثر تمثيلية في البرلمان وصاحبة الأغلبية…وقلب الرحى… وشراع السفينة… أما ذلك الحديث عن الأجنحة والطائر والتحليق… فهو جزء من تلك التفاصيل .. أما الانجاز الفعلي فكان دون شك دق إسفين جديد بين النداء والحر و دليله إلغاء الرياحي لكلمته .. وما ذاك إلا أحد مؤشرات التفوق التكتيكي لشيخنا الهادئ المبتسم دوما … كل مؤتمر وأنتم بخير..