لا يكفي التونسي اليوم ما يعانيه ويكابده من تراكم للقمامة والقذرات والزبالة في الشوارع والطرقات وعلى الشواطئ وفي الساحات ووسط الأحياء… حتى نزيد من معاناته بإضافة قذرات إلى كل تلك القذرات ونفايات فوق كل ذلك الكم الهائل من النفايات حتى أنه أصبح بالكاد قادرا على التنفس والحياة… فأينما ذهبت وحيثما اتجهت تجد نفسك محاصرا بأكوام وأكداس القمامة والنفايات… والمصيبة أن هذه الجبال من القمامة تتعاظم يوما بعد يوم وتتناسل وتزحف على كل ما يحيط بنا حتى أنها ضيقت علينا الخناق وحولت حياتنا إلى جحيم… ومهما صرخت ومهما طالبت الجهات المسؤولة بالتدخل ومهما فعلت فلا من مصغ ولا من مجيب… بل إنك تجد نفسك في كل مرة مضطرا للسير بين أكداس القذرات أو فوقها أو حتى خلالها… ومجبرا ومكرها على أن تشم روائحها الكريهة…. وأن تعيش معها ووسطها… فالقمامة أصبحت اليوم هي القاعدة … ولها مكان في كل مكان.. أما الطهارة والنقاء والنظافة فقد ذهبت إلى غير رجعة في خبر كان…. وحتى داخل بيتك …فإنك لن تسلم من زحف القمامة والقذرات… فما إن تفتح مذياعك و تلفازك أو تجلس أمام حاسوبك لتبحر عبر الانترنت حتى تنهال عليك القمامة… فتزكم أذنيك وعينيك أجناس وألوان من النفايات والقذرات… سخافات وتفاهات ومهاترات وعهر وتفسخ وميوعة وبذاءة وقرف…. وجوه قميئة كأنها قدت من عفن … كالحة ..باهتة… باردة … بذيئة.. تتقيء على الجميع ألوانا من الزبالة والقذارة… حقد وكذب وكراهية وهتك للأعراض وتقول على الله وفسق وفجور وسخافات وميوعة وصفاقة.. ثم يقال لك هذا فن؟؟؟.. هذه سياسة؟؟؟.. هذا حوار؟؟؟… هذه تحاليل؟؟؟… هذا برنامج؟؟؟ هذا إبداع … بل قمة الإبداع؟؟؟ لا تصدق ما تراه عيناك ولا ما تسمعه أذناك ..فتعجل بغلق جهازك وتفر من ذلك الجحيم إلى الخارج ..حانقا …مختنقا… تسير هائما بين الأزقة والأنهج تبحث عن شيء من الهواء النقي… فتستقبلك القمامة عند باب دارك… إنها تترصدك .. وتعد عليك أنفاسك… وتحصي عليك خطواتك… وعبثا تحاول الفكاك منها أو التملص من مراقبتها ومن محاصرتها اللصيقة … إنها وراءك وراءك مثل ظلك… تسخر منك ومن توقك إلى النقاء والصفاء والنظافة والطهارة… ثم إنك تراها تتهكم منك وتغمز وتلمز وتنعتك بأقذر النعوت…. فأنت شاذ ومنحرف الطبع وغريب الأطوار وخارج عن الصف…. الكل يقبل بالقمامة .فلم أنت لا تقبل؟؟؟ الكل يصفق للقمامة ويتغنى بجمال القذارة وحتى يكتب فيها القصائد والمدائح… وأنت تستنكف منها وتعاديها وتنتقدها وترفضها؟؟؟ إذا أنت لست طبيعيا… أنت منحرف.. أنت مخالف… ففي عالم أصبح الفساد والتعفن فيه هما القاعدة… فإن الحديث عن الفضيلة يصبح نشازا وجهلا وتخلفا؟؟؟ ثم إنك ما إن تسير بضع خطوات خارج البيت حتى تنهمر عليك القذرات… كلام بذيء، علب وقوارير حمراء وخضراء، مشاجرات وعنف، سباب وشتائم، نهب وسلب … فتتقرفص حول نفسك.. وتصم أذنيك وترشق عينيك في الأرض … وتحث من خطوك.. تتعثر … تحاول التملص من كل ما يدور حولك.. ثم تدلف إلى أحد المقاهي المنعزلة .. فتنزوي في ركن منزو قليل الإضاءة… تفتح صحيفتك وتحشر رأسك داخلها عساها تبني حاجزا بينك وبين كل ما يدور حولك… علها تمنحك شيئا من الخصوصية … علها تسترك وتواريك عن الأنظار التي تحملق بك.. علها تبني سورا بينك وبين كل ما أصابك بالقرف والغثيان مما يحدث حولك وتمنحك ركنا فيه شيء من النقاء والسكينة والسلام ولو من صنع الخيال… ولكن هيهات.. فما إن تفتح الجريدة .. حتى تنهمر عليك أكوام القمامة والقذارة من كل سطر من أسطرها وكل صورة من صورها ..فتغمرك من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك… يا إلاهي… إنها نفس الوجوه… نفس العبارات … نفس القذارات…. تصاب بهستيريا غريبة… تهتز وتنتفض … يكاد الغيظ يفجر الدماء التي في عروقك… لكنك لا تقدر على فعل شيء… تضرب كفا بكف… تحوقل وتستلطف… ولقول: "إلى أين المفر؟؟؟ إلى أين المهرب من جحيم القمامة هذا الذي أغرق البلاد والعباد وأغرق كل شيء ؟؟ كيف للواحد منا أن يدفع عن نفسه وعن أهله هذه القمامة وهذا البلاء؟؟؟ تجهد نفسك في التفكير وفي البحث لكن عبثا تحاول.. يعييك التفكير فتصاب بالإحباط وتكره نفسك وعجزك وعيشتك… وتتمنى لو أنك لم تولد ولم تكن… فطوفان البلاء والفساد والقذارة قد جرف كل شيء .. وأغرق الجميع… ولكن من أين لك بسفينة نوح؟؟؟ قال تعالى:"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13)" صدق الله العظيم