أيها التونسيون، أيها القارئون لندائي سواء من كان منكم في داخل جمهورية الواحد والخمسين، أو خارج الديار، سواء من كان منكم مستقرّا بين أحضان تونس الخضراء أو موزّعا في الشتات، سواء من كان منكم مقيما في السجون أو المعتقلات أو من يعيش غريبا عن الديار، سواء من كان في المعارضة أو في سلطة القرار.. أيها التونسيون، يا كل الحالمين بالعزّة والكرامة في جمهورية تحتفل بعيد تأسيسها لعشرات السنوات، لكم ولغيركم ممّن يحسنون فن الاستماع ويجيدون التمييز بين الواقع والأوهام، ممن بفرّقون. بين الحقيقة والخيال، أستسمحكم جميعا في أن أروي لكم حكايتي دون افتراء أو هذيان… أنا " التومي المنصوري " مضرب منذ مدة عن الطعام لأجل حقوقي الاجتماعية المسلوبة في جمهورية تستعدّ للاحتفال.. أيها التونسيون، بداية القصّة وأصل الحكاية، أنني أمضيت بسجون وطن الاستقلال 13 عام، سوف لن أعيد على مسامعكم ما مررت به من تعذيب وتدمير وهوان، وما قاسيته كما غيري من شباب المحنة في تلك السجون البشعة، التي بقيت وستبقى وصمة عار، وعنوانا للظلم والاعتداء على كرامة الإنسان، والتي قطعا ستحال إلى عدالة السماء وعدالة التاريخ والأجيال، سوف لن أحدّثكم عن سنوات الجمر، وسنوات القهر، وسنوات السجن، وسنوات الجلد، وسنوات السلخ، سوف لن أحدّثكم عن معاناة الأهالي وأوجاع العائلات، وعن تشرّد الأبناء وعن مئات الأعياد، التي مرّت علينا ونحن في المعتقلات، عن إضرابات الجوع وعن من فارقوا هذه الحياة نتيجة قسوة السجون وملوحة الزنزانات، نتيجة التعذيب والإهمال وغياب العلاج، سوف لن أحدثكم عمّا شاهدت وشاهده غيري، وما عانيتة وعاناه كل مساجين الرأي عبر تلك السنوات، سوف لن أذكر لكم كل هذا فأخبار هذه الفواجع منشورة في كل مكان، سواء ما نشرته الصحافة أو ما شهدت به تقارير حقوق الإنسان، أو ما نشر من شهادات بأفواه أصحابها، سواء من كان منهم حيا أو من فارق الحياة… يا أيها التونسيون الشركاء في الوطن والأرض والكلأ والانتماء، منذ أربع سنوات أطلق سراحي من تلك السجون التي تنهب الأجساد والأعمار، لأجد نفسي أغادر السجن لأصبح كالكثيرين رهائن المتابعة اليومية، ممنوعا من حق الشغل وحق التنقل وحق الكلام، أغادر السجن ليقذف بي في بيتي رهن الاعتقال، لأجد نفسي محبوسا في مدينة " القصور "، إحدى المدن الصغيرة التابعة للشمال، وأجد نفسي مرة أخرى محاصرا كما تحاصر الجرذان، أربع سنوات أمضيتها منتظرا أن ترفع عني القيود في التنقل والترحال، أردت الالتحاق بأهلي في مدينة " سوسة " فمنعت من مغادرة مدينة " القصور"، كاتبت في هذا الشأن عديد الجهات، فكانت الردود وعودا من سراب… حكايتي هذه أيها السادة لا تختلف عن العديد من القصص والحكايات، روايات مساجين سياسيين خرجوا من السجون والمعتقلات، على أمل أن ينصفهم القانون وتستوعبهم المؤسسات، بعد سنوات القهر والاستبداد، فوجدوا أنفسهم من جديد عرضة للمحاصرة والتتبعات، مغتالين في أبسط حقوق المواطنة، حتى أصبحوا عبأ إضافيا على العائلات، وعنوانا من عناوين الاضطهاد… أيها التونسيون الشرفاء، عفوا إن كانت كلماتي تشبه لون الرماد، وعذرا إن كانت تعابيري في طعم الحرمان، فما عدت أطيق الاحتمال، فماذا ينتظر من مهندس فلاحي مثلي له تجربة ثرية في هذا الميدان، يسجن 13 عام دون أن يكون من حاملي السلاح، أو مجرما يترصّد الناس، سوى أنه يؤمن بحق الرأي والاختلاف، ماذا ينتظر من أب مثلي يرى أبنائه يعانون الخصاصة والاحتياج، ولا حق له في الشغل ولا حتى في الحديث مع الناس…. أيها التونسيون في كل مكان، ما عدت أطيق الصبر على هذا الحال، فلا فرق الآن عندي بين بيتي وبين سجون الاعتقال، وما عاد يعنيني ما يكتب وما ينشر ويقال، بأن تونس بلد التسامح والقانون والعدالة وحرية الكلام، ما عادت تعنيني كل تلك الخطب الجوفاء، التي تتغنى بما حققته دولة الاستقلال، ما عادت تعنيني نشرات الأخبار التي تتحدث عن جنة المواطنة التي تجري من فوقها ومن تحتها الأنهار، ما عاد يعنيني كل ذاك السعال، حول ما يسمى بإعادة تأهيل المساجين والإدماج، ما عادت تعنيني كل تلك الأحاديث الحدباء، لم يعد يعنيني شيئا من كل هذه ألأقوال، التي ظاهرها طلاء وباطنها عذاب، ذلك لأني منذ أربع سنوات أعيش كل أنواع المحاصرة والتضييقات والحرمان… أيها التونسيون هنا وهناك وكل الناس الشرفاء، لعلكم ترونني مبالغا في توصيف الأحوال، أو ربما تعتبروني متحاملا على النظام، فاسئذنكم في نقل ما أعانية في جمهورية الاستقلال، أحد المرات تعرّض ابني الطالب بجامعة مدينة " سوسة " لحادث مرور، وصلني الخبر فأردت الذهاب للمستشفى للزيارة والاطمئنان، وقبل السفر وأنا في هذه الحال، اتصلت برئيس مخفر الشرطة لأعلمه بالتنقل من مدينة "القصور" إلى مدينة " سوسة " مقدما سبب سفري بالحجة والبرهان، فطلب مني أن أتقدم بطلب في هذا الشأن إلى الداخلية وانتظار الجواب، وقد لا يأتي الرد قبل 10 أيام، ولأنني أب كالعديد من الآباء، انتفضت على هذا القرار، وسافرت طبعا ليس خارج الحدود، أو خارج معبر رفح، بل من مدينة تونسية إلى مدينة تونسية أخرى تفصل بينهما مسافة 250 كلم، فصدرت في بطاقة تفتيش، ووقع جلبي للمحكمة والنيابة وقامت القيامة، كل ذلك لأنني تنقلت للاطمئنان على ولدي الذي يرقد في أحدى مستشفيات تونس الخضراء… وقبلها أردت زيارة والدي المقعد في الفراش بمدينة " القصرين "، وهي كذلك مدينة تونسية تبعد عن مقر إقامتي 150 كلم، وأعلمت شفهيا مخفر الشرطة على عين المكان، وبعدها انهالت علي المكالمات بالتهديد والوعيد، بإرجاعي للسجن لأني في نظرهم خالفت القانون وعصيت الأوامر وتمردت على النظام… هذه أيها السادة باختصار ودون التطرّق إلى كثير من الأهوال، بعض معاناتي في بلدي التي حوّلت حياتي وحياة عائلتي إلى جحيم لا يطاق، فأي دولة هذه التي تحجّر على مواطنيها الشغل والتنقل وزيارة الأهل والأحباب، وتتركهم فريسة للظلم والحرمان، أي دولة هذه التي لا تنتصر لقيم حقوق الإنسان، وأي دولة هذه التي يصبح فيها التنقل من مدينة إلى أخرى يتطلب تأشيرة عبور، وأي دولة هذه التي يصبح فيها بر الوالدين جريمة يحاسب عليها القانون، وأي جمهورية هذه التي ازدهرت فيها مواسم الإضرابات عن الطعام… ************************** 1 / التومي المنصوري / سجين سياسي سابق / قضى 13 سنة في السجون التونسية / مهندس فلاحي له تجربة مهنية معتبرة يشهد له بها رؤسائه / كان محترما جدا ويحظى بتقدير عند الناس نتيجة انفتاحه وحسن أخلاقه / أطلق سراحة سنة 2004 / منذ 4 سنوات من خروجه من السجن ممنوعا من الشغل والتنقل والحديث مع الأصدقاء / أثناء اعتقالة تعرض إلى تعذيب رهيب في محلات وزارة الداخلية / الآن مضرب عن الطعام منذ 15 يوما احتجاجا على التضييقات والمطالبة بحقة في الشغل والالتحاق بعائلته …. 2 / العنوان مستعار من نص للزميل بسام بونني. 3 / النص ليس من قبيل الخيال، بل هو ترجمة لشذرات من معانات " التومي المنصوري "/ على اثر مكالمة هاتفية بيني وبينه، للاطمئنان على وضعه وهو في إضراب جوع مفتوح ما يزال قائما. ——————— نشر في العرب نيوز / 25 / 7 / 2008 الجزائر تايمز/ 25 / 7 / 2008 تونس نيوز / 26 / 7 / 2008 الحوار نت /27/ 7 / 2008 الحقيقة الدولية / 28 / 7 / 2008 مواطنون / 30 / 7 / 2008 ……………. …………….