يحكى أنه كان بإحدى الغابات الواقعة وسط أحد القفار قطيع من الجديان والخراف البرية التي كانت تعيش في أمن وسلام. كانت تلك الغابة الفريدة من نوعها ترجع بالفضل في وجودها إلى نبع رقراق عذب يتدفق مائه طيلة السنة وسط ذك القفر المترامي الأطراف. كان العشب وفيرا.. والهواء نقيا ..والحياة رتيبة ..لا ينغصها بين الفينة والأخرى إلا غزوات قطيع الذئاب الذي كان يهجم على حين غرة وتحت جنح الظلام فيقتل وينهب ويسفك ويسرق .. ثم يعود إلى أوكاره كأن شيئا لم يكن… سالما غانما. ومرت الأعوام… فتكاثر أفراد قطيع الذئاب وازدادت وحشيتهم وهمجيتهم.. ولم يعودوا يتحينون الفرص خلسة كما في السابق ليضربوا ضربتهم على حين غرة وفي غفلة عن الآخرين… بل أصبحوا يعتدّون بقوتهم وهمجيتهم ويشنون غزواتهم في وضح النهار وأمام الجميع دون الخوف من حسيب أو رقيب فيثخنون ويعربدون وينشرون الرعب أينما حلوا دون خجل أو وجل… حتى ضجت الغابة بهم … ولم يعد للخراف والجديان المسالمة طاقة على تحمل أذاهم ووحشيتهم… فقرروا التمرد على واقعهم والثورة ضد من ظلمهم ونهش لحمهم وشرب من دمائهم. اجتمعت ذوات الأظلاف والقرون وقد استبد بها اليأس وقررت أن تهاجم أوكار الذئاب وتنتقم منها كلفها ذلك ما كلفها… – لا يمكن أن نخسر أكثر مما خسرنا … ردد أحدهم. – لقد حرموني من أبنائي وبعلي وأخي وأمي وتركوني وحيدة أتجرع كأس الفراق واللوعة… لم تعد بي رغبة في الحياة… لا بد أن أثأر لنفسي ولكل أهلي.. فإما الخلاص وإما أن أصير إلى ما صاروا إليه.. فأريح نفسي من هذا العذاب… أضافت خرى – إن أحوالنا أصبحت لا تسر عدوا ولا حبيبا… لقد تناقصت أعدادنا… ونحلت أجسامنا وخارت قوانا وتملك الرعب والخوف منا حتى أصبح بعضنا يفضل الموت جوعا على الخروج إلى المرعى الخصيب حيث لا أمن ولا أمان… أضاف آخر. – إن لم ندفع هذا البلاء عن أنفسنا فإننا سنخسر كل شيء ولن يبقى منا فرد واحد… إنهم رغم ازدياد أعدادهم لا يزالون أقل منا بكثير … ولولا جبننا وتشتتنا لما قدروا علينا… فلنتكاتف ولنوحد جهودنا ولنثأر لكرامتنا المهدورة ودمنا المسفوح وخيرنا المنهوب … ولنلقن هؤلاء المتغطرسين درسا ولنخلص الغابة من شرهم وغدرهم وظلمهم… – ولكن كيف يمكن لنا أن نتغلب عليهم وهم أكثر منا قوة ولهم من الأسلحة والدربة على القتال ما يفوقنا أضعافا مضاعفة… – إن كان لهم مخالب وأنياب فنحن أيضا لنا قرون حادة كالسيوف وحوافر صلبة كالصخر… ثم لا تنسوا أننا أكثر منهم عددا … وإذا ما أعملنا عقولنا واتبعنا سبيل الحيلة والمكر فإننا منتصرون عليهم بإذن الله… أما إن تجبنوا وتتخاذلوا فإن ذلك لن ينقذكم من الهلاك… فحتى إن أمد الخوف عمرك بضعة أيام أو أشهر أخرى فإن الموت تحت أنياب تلك الوحوش الضارية سيكون مصيرك في النهاية … فلم الخوف من مصير محتوم.. نحن ميتون اليوم أو غدا فلم لا نواجه مخاوفنا وننقض على عدونا ونذيقه من نفس الكأس التي طالما جرعها لنا؟؟؟ صفق الجميع لهذا الرأي وهللوا .. وارتفعت همتهم… ولاح الإصرار والعناد في عيونهم… وأخذوا يرفسون الأرض بقوائمهم حتى تعالى الغبار في عنان السماء … ثم خيم الصمت وتفرق الجمع وهم يبيتون على أمر قد حسم. ما إن غربت الشمس .. وجن الظلام … حتى بدأ الخراف والجديان في التسلل إلى مكان قد اتفق عليه كمقر للاجتماع كان قليلا ما تقترب منه الذئاب لخلوه من الأشجار والأعشاب وانتشار الصخور والثعابين فيه… امتلأ المكان ولم يعد قادرا على استيعاب الأعداد الكبيرة من الوافدين… تقدم تيس مرتفع القامة نحيف الجسم تظهر عليه علامات الجرأة والإقدام والتوثب… كان بعين واحدة وقرن واحد وكان جلده يحمل الكثير من الندوب والجروح بعضها مندمل والبعض الآخر ما زال طريا من كثرة ما خاض من معارك مع الكواسر والضواري المتوحشة … ضرب الأرض بحوافره… ثم وثب وثبة رشيقة فارتقى إلى أعلى صخرة.. ثم خطب في الجمع المحتشد أمامه في لهجة حماسية: – هذه الليلة ستكون الليلة الفاصلة بيننا وبين عدونا… فإما أن نظهر عليه ونستعيد كرامتنا ونأخذ بثأرنا منه.. وإما أن نموت بشرف فيخلد التاريخ ذكرانا ويسجل بأحرف من ذهب هبتنا هذه لتكون عبرة وملحمة يتناقلها أبناؤنا وأحفادنا … تبعث في قلوب أعدائهم المهابة والرهبة منهم…وتبعث في بني جنسنا النخوة والعزة والفخر … فلا يسمحون لأحد بعد هذا اليوم أن يهين كرامتهم ولا أن ينال منهم ولا أن يستبيح أرضهم ولا دمائهم ولا أبناءهم. إننا سننتظم في شكل صفوف متباعدة تشكل نصف دائرة .. وسنجعل الخراف والتيوس الخفيفة السريعة الحركة في الوسط بينما تصطف القوية ذات القرون الحادة والطويلة على الجانبين… ثم سنهجم في وقت واحد على مخابئ الذئاب وجحورها فندكها بحوافرنا حتى تقع على رؤوسهم.. وعندما يحاولون الهجوم علينا سنستدرجهم إلى حيث يكمن أشجعنا وأشدنا بأسا فينقضون عليهم ركلا ونطحا فيبقرون بطونهم ويحطمون عظامهم… وبسرعة البرق انضمت الصفوف وانطلقت الجموع في صمت وعزم نحو أوكار الذئاب … كان وقع الصدمة مهولا على الذئاب الغافلة.. فلم يكن أحد منها يتوقع ولو لوهلة واحدة أن يحدث ذلك… أن تتحدى الخراف والجديان مخاوفها وأن تنظم صفوفها وأن تبادر هي بالهجوم على مفترسها وقاهرها…؟؟ اضطربت الذئاب وهرولت في كل اتجاه وهي تعوي وتزعق .. وعبثا حاولت أن تنظم صفوفها وترد على الهجوم الكاسح الذي شنته ذوات الأظلاف ضدها… ثم لم تلبث أن وقعت في الكمين الذي نصب لها وانهالت عليها القرون والأظلاف طعنا ورفسا حتى فتكت بها فتكا فمات من مات وفر من تبقى منها مهرولا داميا ممزقا لا يلوي على شيء ولا يجرؤ حتى على الالتفات… فرح الخرفان ورقص الجديان.. لقد تمكنوا من تحقيق نصر باهر على عدوهم وبأقل ما يمكن من الخسائر… لقد فعلوا ما لم يقدر غيرهم على فعله فأصبحوا مثلا وعنوانا للبطولة والثورة والتحدي.. لا مكان للخوف عندهم بعد اليوم ولا للجوع ولا للحرمان… لقد أخذوا مصيرهم بأيديهم ولن يكون لهم إلا ما يريدون… سيعيدون الحق لأصحابه وسيكتبون بأيديهم دستورهم وديوانهم وأشعارهم… لا مكان للذئاب بينهم بعد اليوم… لا مكان للوحشية والنهب والسلب ولا مكان للظلم والقهر … سيعيش الجميع في أمن وسلام وسيكون كل خير أرضهم ملكا لهم لا ينازعهم فيه أحد… ولكن وبعد مرور أيام على ذلك النصر المبين بدأ الشقاق يدب بين الخراف والجديان.. فكل واحد راح يدعي الفضل فيما حدث.. وكل واحد راح يطالب بنيل النصيب الأوفر من المرعى والمياه… ثم انتقل الخلاف إلا عراك وصراخ وكيل للتهم ورميا بشتى النعوت النابية المحقرة والمعادية… وهكذا غرق الجميع في الجدال والشقاق والسباب والمعاندة والمماحكة وراحوا يتصارعون على كل شيء ثم قرروا أخيرا أن يحتكموا إلى الكثرة… – من له العدد الأكبر من الأنصار والأتباع والأعوان فقط هو من له الحق في القيادة… هكذا اتفق الجميع في نهاية المطاف.. شعر البعض بالمهانة والخوف مما سيحدث له… لقد كان بالأمس في منعة وكان الأقل تضررا من شراسة الذئاب نضرا لبعد مناطق رعيه عن أوكارها ونظرا ضآلة جسمه بسبب ظروف عيشه الصعبة وقلة أكله وكثرة تنقله… فكيف لهم أن يقبلوا بالأمر الواقع وهم يجدون أنفسهم مقصيين مرة أخرى من الوصول إلى حقوقهم حتى بعد تخلصهم من عدوهم.؟؟؟.. بينما أدرك آخرون ممن كانوا أعوانا وأتباعا وعيونا للذئاب على بني جنسهم أن الدائرة ستدور عليهم وأنهم سيهلكون لمحالة وسيضيع كل ما استولوا عليه واحتكروه لأنفسهم دون غيرهم من مراع خصبة وجداول عذبة إن هم قبلوا بالأمر الواقع وسلموا قيدهم إلى هؤلاء الحكام الجدد من الرعاع والعامة الذين يسعون إلى قلب كل شيء رأسا على عقب … فما العمل إذا؟؟ – لا بد من الاستنجاد بالذئاب من جديد. أشار أحدهم. – ولكن هل سيقبل الخواف والجديان بذلك؟؟؟ تساءل آخر؟؟؟ – نعم إنهم سيقبلون إذا عرفنا نحن كيف نتصرف واستثمرنا ما بينهم من خلافات وعمقنا ما بينهم من شكوك وعدم ثقة…. إن خبرة هؤلاء في الحكم وفي تنظيم الأمور ضعيفة.. ونحن نستطيع أن نشوش عليهم وننشر بينهم الشائعات والدسائس وبذلك نهز من ثقتهم في أنفسهم ومن ثقة بعضهم في بعض عندها يمكن لنا أن نجد بينهم مدخلا لنا… – كم أنت داهية تمتم أحدهم وهو يتلذذ بما كان يستمع إليه… وهكذا بدأ البعض يتصل بمن بقي من الذئاب مختبئا في أطراف الغابة أو حتى لاجئا خارجها ليحثه على العودة واعدا إياه بالدعم والمساندة… ثم راحوا ينشرون خبر عودة الذئاب وما يمكن أن يكون له من فائدة في صفوف الجميع وراحوا يؤكدون على حق الذئاب في العودة إلى موطنهم وحقهم في الحياة في موطن أجدادهم مثل بقية كائنات الغابة … – من العيب أن نحرم هؤلاء حقا منحه لهم خالقهم. استنكر أحدهم. – هؤلاء أيضا ولدوا هنا ونحن شركاء معهم في الوطن أحببنا أم كرهنا وإن كانوا أساؤوا إلى بعضنا يوما فلنسامحهم ولنتجاوز عنهم ولنطوي صفحا عما اقترفوه في حقنا وكفاهم ما أصابهم في ذلك اليوم المشهود الذي ثرنا فيه عليهم من مآس … ثم ما هو الفرق بيننا وبينهم إن كنا سنعاملهم بمثل ما عاملونا به من وحشية وعدوانية ؟؟؟ الأفضل هو أن نكون أكثر تسامحا وأكثر رفعة منهم لأننا أصحاب فكر وصناع ثورة بينما هم شرذمة ضالة ستستعيد رشدها بعد كل ما حدث لها وستعود إلى الجادة … فلا مبرر للخوف من عودتها أنها لم تعد تمثل أي خطر علينا. أضاف آخر – لكن إن غفرنا لهم وتجاوزنا عنهم وسمحنا لهم بالعودة بيننا فإنهم سيعودون إلى نفس صنيعهم السابق وإلى نفس سيرتهم معنا وسيستبيحون دماءنا ولحومنا من جديد… صرخ أحدهم – إن كان ولا بد من عودتهم فنحن نطالب بمحاسبتهم وتحميل المذنب منهم أوزار ماقترفت يداه… وأن يتم خلع أنيابه وتقليم أظفاره حتى يكف عن القتل وسفك الدماء… أضاف آخر – ما هذا الهراء وما هذا الهذيان؟؟؟ كيف يسمح أحدكم لنفسه بأن يقول مثل هذا الكلام الشاذ والمتطرف… كيف تطالبون بأن يتم تعذيب شركائنا في الوطن بتلك الطريقة البشعة فتطالبوا بقلع أنيابهم وأظافرهم… ما هذه السّاديّة.. ما هذه الوحشية… ألم تقولوا أنكم مسالمون وصناع سلام؟؟؟ ألم تقولوا أنكم ستعاملون الجميع بالحسنى وأنكم ستقطعون مع سياسات من كان قبلكم من سفاكي الدماء؟؟؟ إن كنتم أنتم تقبلون فنحن لن نقبل بذلك… نحن نطالب بدلا عن ذلك بالصفح عن الجميع والمصالحة الشاملة حتى تعود الغابة كما كانت أرضا للجميع… فيها مكان للجميع حيث يعيش الجميع جنبا إلى جنب في رخاء ومنعة… استنكر آخر – ثم كيف نسيتم أن الذئاب قادرة على نشر الأمن والطمأنينة في غابتنا وحمايتها من هجمات الضباع القادمة من المناطق المجاورة …تلك الحيوانات القذرة المجرمة المرعبة التي لا تعترف بقانون ولا بعرف وليس لها عمل إلا القتل والسلخ وقطع الرؤوس ونشر الرعب.. ألم تروا ما فعلته تلك المجموعة المتسللة منهم في المنطقة الشمالية الغربية من غابتنا وكيف راحت تفتك بكل من يعترض طريقها لتنشر الدمار أينما حلت؟؟؟ لقد كنا نحيى في أمن أكبر عندما كانت الذئاب هي التي تسود الغابة.. أما اليوم فنحن أصبحا نعيش في رعب مستمر نهبا لكل من هب ودب… – ما هذا المنطق الأخرق؟؟… اعترض أحدهم حانقا…أتريد أن تفهمنا أننا كنا نحيا حياة أفضل تحت بطش الذئاب؟؟؟ … ثم ما هو الفرق بين أن يفترسك ضبع شرس أو يفترسك ذئب ماكر ؟ ثم كيف تريدون منا أن ننسى بهذه السرعة جرائم الذئاب في حق أبنائنا وأمهاتا وإخواننا وأخواتنا.. وكم من الدماء سفكوا منا ؟؟؟ وكم من العائلات شردوا؟؟ ثم أتريدون منا أن نصدق أن الضباع المتسللة إلى غابنا جاءت من تلقاء نفسها؟؟؟ أليست تلك الضباع أبناء عم لذئابنا ؟؟؟ فمن ياترى دلهم على الطريق المؤدية إلينا ؟؟؟ ومن رغبهم في القدوم إلى هنا إن لم يكن من بقي من ذئاب غابنا حتى يرهبونا ويكسروا شوكتنا .. فعن أي مصالحة تتحدثون ..؟؟ نحن الثوار لن نقبل بهكذا مصالحة… لأنها ليست سوى تبييض للمجرم وتسويغ لأفعاله وتغاض عن جرائمه… – ومن أنت أيها الوضيع المتشرد لتوافق أو لا توافق؟؟ ومن طلب منك أن تبدي رأيك أصلا؟؟ أنت لست سوى واحد من العامة.. انظر إلى نفسك إنك معدم قذر هزيل… إنك بالكاد قادر على الوقوف على قوائمك… من أنت لتتطاول على أسيادك وتبدي رأيك في أمر جلل مثل هذا؟؟؟ ثم من نصبك وصيا على الثورة وعلى الثوار حتى تتحدث باسمهاوبسمهم ؟؟؟ أنت وأمثالك من الثورجيين انتهى دوركم منذ تلك الليلة وليس لكم اليوم إلا القبول بما يقرره الأكثرية.. التي قررت أن تطوى صفحة الماضي وأن تعيد المياه إلى مجاريها وأن تعرّف كل واحد قدره… فاذهب في حال سبيلك وكفاك تأليبا للناس وإذكاء لنار الفتنة… – هل أصبح قول الحق اليوم إذكاء للفتنة ؟؟؟ هل أصبح اليوم من يطالب بحقه خارجا عن الأغلبية وشاذا؟؟؟ إن كان الأمر كما تقولون فلم قامت الثورة أصلا إذا ولم قمنا بطرد الذئاب من غابتنا ؟؟؟ و..وكي…..ف..يم… لم يقدر التيس الأعور أن يواصل حديثه فقد أحاطت به جموع من أنصار المصالحة والداعمين لها وراحوا يصرخون ويصفرون ويثغون ثم التفوا حوله وراحوا يشبعونه ركلا ورفسا ونطحا حتى كادوا يقضون عليه .. وما إن انتبه التيس الأعور لما يحدث من حوله -وقد جمدته الصدمة -حتى وجد نفسه مرميا على جانب الطريق لا يكاد يقوى على الحراك وقد ضاع صوته وسط ضوضاء تصم الآذان من حناجر راحت تهتف للمصالحة وتتغنى بمحاسنها وتدعوا الجميع للقبول بها… تحامل التيس على نفسه وحاول العودة إلى ملجئه البعيد في جوف الغابة وهو لا يكاد يصدق ما يحدث له… كيف له أن يصدق أنه يعامل بهذا الشكل الفظيع وبعد فترة وجيزة على ثورتهم وانتصارهم على وحوش الغابة ؟؟؟ أيمكن للجميع أن ينسى بهذه السرعة كل ما حدث ؟؟؟ كيف يقبلون بهذه السرعة ما لم يكونوا ليقبلوا به منذ أيام قليلة خلت؟؟؟ كيف يمكن أن يسمحوا بكل هذه البساطة أن تسرق ثورتهم وأن يركنوا للعبودية والمهانة من جديد؟؟؟ ثم تذكر ما قاله أحد أعوان الذئاب المندسين وسط الثوار فطأطأ برأسه محاولا إخفاء دمعة حارقة أفلتت من مقلته لقد كان الصوت يتردد في أذنيه ويكاد ينفجر داخل رأسه :" لم يعد لكم خيار اليوم أيتها الخراف والجديان سوى القبول بعودة الذئاب للعيش بينكم وإلا فإنكم ستفنون عن بكرتكم… إنكم ستكونون واهمين إن صدقتم أنفسكم بأنكم قمتم بثورة وأنكم أهل لأن تكونوا ثوارا… أنتم فقط مجموعات من الخراف والجديان البائسة المعدمة انتفضتم على حين غفلة من أسيادكم وفعلتم ما فعلتم على حين غفلة من الجميع… لكن اليوم يجب أن يعود كل شيء إلى موضعه وفي أقرب وقت ممكن… أنتم مجموعات من السذج والأغبياء إن اعتقدتم لوهلة أن الذئاب لا سند ولا ظهر لها …. وأنه يمكنكم التخلص منها بهذه البساطة… الأفضل لكم وللجميع أن تقبلوا بعودتها بينكم عن طيب خاطر خير من أن تقبلوا بذلك صاغرين مكرهين…. إن هؤلاء الذئاب قادرون على تأليب كل الضواري ضدكم كما أنهم قادرون على استقدامهم إلى عقر داركم ليقضوا عليكم في رمشة عين ويفنوكم عن بكرة أبيكم… " أحس التيس الأعور بالمهانة والخيبة .. وغاب عن الوعي لوهلة فرأى نفسه كيف أنه كان بالأمس القريب سيد الساحات… وكيف كان زعيم كل المواجهات.. و كيف كانت الجموع تنقاد لأوامره وتصفق لخطبهالحماسية وتهتف باسمه عاليا … لقد كان يحمل على الأعناق ويتهافت الجميع من أجل التحدث إليه والجلوس إلى جواره… أما اليوم فقد أصبح منبوذا مذموما محتقرا كنعجة جرباء .. أما كلامه فقد أصبح محل نقد وتهجم من الجميع… – نحن لسنا قادرين على مواجهة هذه الوحوش الضارية ..همس في أذنه أحد أصدقائه وهو يغادره إلى غير رجعة ويعلن توبته منه .. – يجب أن نعترف أننا لسنا أهلا لأن نأخذ مصيرنا بأيدينا وأنه من الأفضل لنا أن نعود كما كنا ونقبل بالرضوخ للذئاب فهي في نهاية المطاف أفضل من الضباع أو غيرها من بقية الضواري والوحوش… أضاف آخر وهو يحث الخطى ليلحق بمن سبقه. – أن نقدم البعض منا قربانا للسلام والعيش الوديع خير لنا من أن نخسر كل شيء ونقع فريسة لجيش جرار من الضواري والوحوش… قالها آخر المغادرين. لم يتبقى أحد حول التيس الأعور… غير صرير الرياح وغرغرة أمعائه الخاوية وشيء من ذكريات ملحمة مغدورة انقلبت فجأة إلى كابوس مريع ..