هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    التبادل التجاري بين أمريكا وتونس يحقق فائضا ب300 مليون دولار    المهدية: محامو الجهة ينفّذون وقفة احتجاجيّة وإضرابا حضوريا بيومين للمطالبة بإحداث محكمة استئناف بالجهة    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    السجن مدى الحياة لشخصين..فصلا رأس زميلهما عن جسده..    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب    هذه الشركة العالمية للأغذية مُتّهمة بتدمير صحة الأطفال في افريقيا وآسيا.. احذروا!    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    فرنسا: غرق 5 مهاجرين...التفاصيل    صور : وزير الدفاع الايطالي يصل إلى تونس    الفيفا يكشف عن فرضيات تأهل الترجي الرياضي لكأس العالم للأندية    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ما القصة؟    يهم التونسيين : غدًا طقس شتوي 100% و هذه التفاصيل    تفكيك وفاق إجرامي من أجل ترويج المخدرات وحجز 08 صفائح و05 قطع من مخدر القنب الهندي..    جندوبة: الإحتفاظ بمروج مخدرات بمحيط إحدى المؤسسات التربوية    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    ر م ع الشركة الحديدية السريعة يكشف موعد إنطلاق استغلال الخطّ برشلونة-القبّاعة    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    إخماد حريق بشاحنة ثقيلة محملة ب7،6 طن من مواد التنظيف..    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    بطولة إفريقيا للأندية للكرة الطائرة: مولودية بوسالم يواجه الأهلي المصري من الحفاظ أجل اللقب    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 بالمائة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    صادم: كلغ لحم "العلوش" يصل الى 58 دينارا..!!    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسلمون والانسداد التاريخي: لا عاصم اليوم إلا العقل حوار مع المفكر عزالدين عناية
نشر في صحفيو صفاقس يوم 13 - 10 - 2016

منذ أن دشن الراحل محمد أركون مشروع نقد العقل الإسلامي في سبعينات القرن العشرين وهو يؤكد ويردد بأن الأمر يتعلق بمشروع كبير يحتاج إلى فتح عدة أوراش من أجل مباشرة عمليات الحفر والتنقيب في تلك الطبقات المتراكمة عبر عصور طويلة من تاريخ العرب والمسلمين. ورغم إدراكه لصعوبة المشروع فقد كان مقتنعا بأنه سيأتي الوقت الذي سينهض المثقفون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من مرحلة الانسداد التاريخي التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية في العصور الحالية.
وبالفعل ظهر جيل من الباحثين والمفكرين أخذوا على عاتقهم حمل المشعل والمضي في الطريق من أجل تحقيق الهدف. الأمر يتعلق بمجموعة من الباحثين تخرجوا من جامعة الزيتونة وعزموا على التخصص في الفلسفة و التاريخ وسوسيولوجيا الأديان من بينهم الأساتذة: عدنان المقراني وحسن سعيد جالو وعامر الحافي ومحسن العوني وعز الدين عناية، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين ومحرومين –كما توقع ذلك أركون- من الدعم الكافي لممارسة عملهم بل أكثر من ذلك حرموا من الحصول على وظيفة تمكنهم من الإستمرار في العيش فكان أن غادروا البلد ولجأوا إلى بلدان مختلفة .
وهذا الحوار سنخصصه لباحث من هؤلاء هاجر إلى الديار الإيطالية وحصل على الجنسية الإيطالية وأصبح مدرسا في جامعة روما لاسابيينسا. ألا وهو الدكتور عز الدين عناية.
كرس عزالدين عناية حياته العلمية لدراسة الظاهرة الدينية من خلال ترجمة بعض الأعمال وتأليف مصنفات أخرى تصب كلها في تيار نقد الفكر الديني نقدا علميا موضوعيا. حيث ترجم كتاب "علم الأديان: مساهمة في التأسيس" للعالم الأنتروبولجي الفرنسي "ميشال مسلان" (المركز الثقافي العربي2009). وكان هدفه من هذا العمل هو ملء حالة الفراغ العلمي في مجال الدراسات الدينية حيث يغيب علم الاجتماع الديني والأنتروبلوجيا الدينية وتاريخ الأديان وعلم النفس الديني وعلم الأديان المقارن، لتحل محلها العلوم الشرعية والفقهية التي تجعل من العقل غارقا بين أمواج الملل فتستمر الانقسامات ذات الطابع المذهبي بين الفرق والمذاهب وليس بين الآراء والأفكار. إن هذه العلوم الجديدة التي أصبحت اليوم ضرورية لفهم مجتمعاتنا التي يلعب فيها المقدس دورا كبيرا في حياة الناس ورغم أن الكتاب المترجم يعتبر من كلاسيكيات هذه البحوث فإنه ساهم بشكل كبير في بلورة المنهج الشامل لعلم الأديان الذي يتطلع للإحاطة بالتجربة الدينية للإنسان.
في كتاب "الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري" (دار الجمل 2006) يحلل عزالدين عناية الإنتاج الفكري العربي الحديث عن اليهود واليهودية ويطلق عليه نعت "الاستهواد" مبينا بأن العلاقة الوطيدة بين النص القرآني والنص التوراتي في مجالات العقيدة والتشريع، بالإضافة إلى علاقة المسلمين واليهود في الجزيرة العربية، شكلت مصدرا غنيا للفكر الإسلامي الكلاسيكي والفكر الغربي الحديث في معالجة الظاهرة اليهودية. كما اهتم الفكر العربي الحديث باليهودية بعد قيام الدولة العبرية في فلسطين وهي الدولة التي تستلهم وجودها من النص التوراتي حيث اختلط البعد الإيديولوجي بالعلمي والبعد الديني بالسياسي . بعد جرده للدراسات العربية حول اليهود منذ كتابات عباس محمود العقاد إلى أبحاث السيد محمود القمني قام المؤلف بقراءة تحليلية لهذه الإنتاجات من منظور نقدي مصححا في نفس الوقت بعض التصورات والمغالطات التي نشأت من التعامل غير الموضوعي وغير العلمي مع التراث العبري اليهودي متطرقا كذلك للشخصية اليهودية محاولا النظر إليها نظرة جديدة فهي ليست شخصية جامدة أو ثابتة على مدار التاريخ، ولذا ينبغي التعامل معها ضمن التبدلات الاجتماعية ومتغيراتها مع ملاحظة التراث اليهودي وأثره في تركيب الشخصية اليهودية وتوجيهها.
أما كتاب "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" (دار توبقال 2010) فهو عبارة عن إعادة قراءة المسيحية في تجلياتها المعاصرة وماتمثله من تحد للفكر العربي المعاصر، فالمسيحية لايمكن اختزالها في رسالة روحية ينقصها الجانب الدنيوي في غفلة عن التطورات الحاصلة في المجتمع كما هو شائع في أذهان عامة الناس وبعض المثقفين ، بل هي ديانة حية ونشيطة وحاضرة بشكل قوي في الخيارات المجتمعية والسياسية لكثير من البلدان.
وعموما فإن هذين الكتابين حول اليهودية والمسيحية وموقف الفكر العربي الحديث منهما يدخلان في إطار الدعوة إلى انفتاح الباحثين العرب على البحث العلمي الجاد النقدي والهادئ لمقاربة الظاهرة الدينية بصفة عامة من خلال هذين النموذجين وتنبيه العقل العربي والإسلامي إلى ضرورة التسلح بالمناهج الجديدة والفتوحات المعرفية الجديدة التي من شأنها أن تفتح الباب أمام فهم جدي للدور الذي يلعبه الدين في الحياة الاجتماعية بعيدا عن التجييش الأصولي وعن التناول البسيط للظاهرة الدينية في الثقافة العربية المعاصرة.
وفي كتاب آخر بعنوان: "العقل الإسلامي: عوائق التحرر وتحديات الانبعاث" (دار الطليعة 2011) جدد عزالدين عناية الدعوة إلى تأسيس سوسيولوجيا لفهم الديني في المجتمعات العربية الإسلامية حيث يتصارع قطبان متضادان على احتكار الدين وتوظيفه لخدمة مصالحه وإيديولوجيته وهما : الإسلام السلطوي والإسلام الأصولي. حيث يلتقيان في رفضهما أية تأويلية مغايرة لرؤية كل منهما، وتحمى معركة احتكار ثروة المخيال الديني والروحي للجماهير باسم الشرعية والتمثيل الرسمي. فيبدو الإسلام الشعبي الجماهيري يتيما بين الإسلام السلطوي المدعوم بقوة السلطة وجهازها القمعي، والإسلام الأصولي المختزن لهياج متفجر، كل يريد أن يركب حصان الجماهير، وتوجيهها حسب مبتغاه، لما تستبطنه من طاقة ومشروعية. ولذلك يراهن الإسلام الأصولي على الفاكرة الشعبية المسكونة بالأحلام والطوباويات المتشكلة مع الإسلام التأسيسي، ويراود تلك المخيلة عله يسندها، ويتحاشى أن يعرض نفسه على الانتلجنسيا التي تمحص الأشياء معرفيا، لما يحمله في فكره من تناقضات. فتجده يتوجه إلى كتل العامة، التي بالكاد تخطت عتبة الأمية، وما امتلكت رؤى نظرية وفكرية تسمح لها بتمحيص المفاهيم، وحتى إن توجه إلى الجماعات المتعلمة تعليما راقيا، فغالبا مايجنح إلى تلك المنحدرة من التخصصات العلمية الصحيحة، الهندسية والطبية، التي يعرضها بكونها الكوادر المثقفة، وهي بالحقيقة كوادر مهنية لاثقافية.
المهدي مستقيم: كيف تقدم نفسك للقارئ العربي؟
عز الدين عناية: لعلّه ينطبق عليّ قول كارل غوستاف يونغ "أفكاري تدور حول الله كما تدور الكواكب حول الشمس"، فأنا "كائن متدين" متحرر من الباراديغمات، أجد في نفسي قدرة هائلة للتعايش مع كافة أشكال الإيمان واللاإيمان، فضلا عما لديّ من شغف بقضايا التديّن واللاتدين، أسعى من ورائها لاكتشاف سُنن الدين وتبدلاته، وإن بدا الأمر خارج الضبط. وأحمد الله على أني ابن ثقافتين إسلامية ومسيحية خلّفتا لدي قدرة على رؤية الظواهر والوقائع بمنظورين مختلفين قلّ أن يُتاحا للمرء.
المهدي مستقيم: أين وصل مشروع نقد العقل الإسلامي الذي اعلن عنه الراحل محمد أركون؟
عز الدين عناية: أيّ منشغل بقضايا الدين بحقّ هو في ورشة مشرعة على الزمان والمكان، ليس فيها بداية ولا نهاية، فقدرُ العقل الديني التاريخي أن يبني كيانه ثم يفككه، ثم يعيد بناءه في حركة لا تعرف التوقف. ومن وجهة نظري ليس ثمة مشروع لنقد العقل الديني بل ثمة مسعى لترسيخ العقلانية وهو مسار لا ينتهي. فاهتمامي بالعقل الإسلامي هو من ناحية النظر للأديان الأخرى، وهذا متأتّ من تخصصي في دراسات الأديان سواء في مرحلة الدراسة الزيتونية الأولى أو في جامعتي القديس توما الأكويني والغريغورية في روما لاحقا.
صحيح أن الراحل محمد أركون من أبرز المشتغلين في عصرنا على ما يُعرف بنقد العقل الإسلامي، ولكن بيني وبينه مسافة، فهو ابن السربون وأنا سليل الزيتونة، هو من أنصار التنوير العلماني وأنا من أنصار التنوير الإيماني، هو فرنكفوني الهوى وأنا مغاربي المشاغل، وإن كان بيتي على مرمى حجر من المسرح الروماني.
لا شك أن أركون عقل فذّ، مثل القديس أوغسطين، ولكن كلاهما نسي أصله الإفريقي، فالسابق تماهى مع "الرومانية" وتنكر للدوناتيين الأفارقة الذين قالوا نحن أفارقة أولا ثم مسيحيين ثانيا، واللاحق تماهى مع "الفرنكفونية" حتى بات علما من أعلامها وفارسا من فرسانها، فقد كان أوغسطين تجليا لعقل قرطاج المروْمن وأركون تجليا للعقل المغاربي المفرْنس.
المهدي مستقيم: كيف جاءتك فكرة الانخراط في هذا المشروع الضخم؟
عز الدين عناية: كان لدي شغف بالتوراة والإنجيل والقرآن منذ عهد الصبى، حين كنت أصغي إلى والدي وهو يرتل القرآن بُعيد صلاة العصر كل مساء تقريبا، وقد زاد ذلك الشغف مع تعرضي المبكر لتهمة سياسية دينية، وأنا في سنّ السادسة عشر، بالتشيّع لآل البيت وموالاة نظام الثورة الإسلامية في إيران، بقيت تبعاتها عقودا تلاحقني، صودر لأجلها جواز سفري ومُنعت من الشغل في بلدي وكنتُ عرضة للمتابعة الأمنية الدائمة وتفتيش محل سكناي، إنها إحدى عجائب الزمن العربي البوليسي والكل مبني على شبهة. ولذلك ما كان اختياري الهجرة رغبة بل بعد أن انسدت أمامي كافة السبل. لكن يبقى ذلك من جملة عوامل دفعتني للميل للمسائل الدينية. وهو ما تطوّر لاحقا إلى وعي علمي ومعالجة رصينة، إيمانا بأن ثمة حاجات ملحة في الثقافة العربية، ومن هذا الأمر بتُّ أحدّد مساري. وبصفة تكويني الديني المزدوج اللاهوتي والعلمي، والمتنوع، الإسلامي والمسيحي واليهودي، وجدت نفسي في خضمّ قضايا التراث الإبراهيمي. فكما تشغلني مسائل الإسلام تشغلني مسائل المسيحية أيضا، لذلك أجدني أحيانا مغرقا في قضايا المسيحية العربية أكثر ممن يدينون بهذا الدين، ربما لأن اهتمامي بالظاهرة الدينية ليس من زاوية الاعتقاد، بل بوصفها تجربة بشرية أسعى جاهدا للتملي فيها.
وبرغم أن دين الإسلام هو نابع من عمق التراث الإبراهيمي، أرى تفريطا في الاشتغال العلمي على تفرعات هذا التراث، لا سيما ركنيه المسيحي واليهودي، لذلك أسلّط اهتماما مكثفا على هذين المجالين، أسعى فيه لنقل الخطاب العربي السطحي والساذج بالمسيحية إلى خطاب علمي نقدي. لأن هناك خطابا كارثيا، مشبعا بالنحيب عن مصائر هذه الدين، يقابله خطاب فخري مداهن لا يذهب بعيدا في قراءة الوقائع. كما أن ثمة انحرافا منهجيا رهيبا في قراءة اليهودية في الثقافة العربية الحديثة حذّرتُ من تداعياته في كتابي "الاستهواد العربي".
المهدي مستقيم: ما هي أهم الصعوبات والعراقيل التي تعترض مشروع جاد كهذا؟
عز الدين عناية: توجد عراقيل جمة تعترض مراجعة العقل الديني أو إعادة تفكيكه بوجه عام، منها افتقاد العاملين من داخل الحاضنة العربية إلى الأدوات، فما عادت قدرات العقل التقليدي -في المجال الإسلامي- كافية أو قادرة لتناول هذه المسألة وإدراكها. لعل جامعاتنا الدينية في البلاد العربية هي الأفقر في الإلمام بأدوات قراءة الدين اليوم، مع ذلك تصرّ على احتكار مشروعية النطق باسمه. لكن الخطورة الكبرى التي تتهدد مشروع نقد العقل الديني في الراهن العربي وهي الاصطفاف الإيديولوجي المتفشي بين المثقفين، والمثقف العربي لم يتحرر بعد ماديا حتى يتحرر فكريا في النظر إلى الظواهر وإعمال العقل بكل مصداقية.
لكن فضلا عن الافتقار للأدوات التي أشرت إليها توجد إشكالية عويصة تحاصر الدارس العربي، ألا وهي وقوعه رهن السياسة، فليس لدينا بحثٌ حرٌّ، هناك بحث مسيَّسٌ ومغشوش محكوم بالرهبة من السلطة وبالعداء الإيديولوجي المرضي بين العائلات الفكرية، وأقدِّر أنه عائد للأمر التالي: لدينا مكوَّن علماني، أو لا إيماني، أو إلحادي -سمِّه ما شئت- في مقاربة الدين في الثقافة العربية، لا زلنا نتعامل معه بالطمس والتغييب والمراوغة، والحال أننا ينبغي أن نصارح أنفسنا ونخرج من دائرة النفاق. أستحضر عناوين ثلاثة أعمال صادرة في إيطاليا تعبر عن ذلك الحوار العميق بين العقل العلماني والعقل الإيماني: الأول بعنوان "في ما يعتقد من لا يعتقد؟" يجمع بين أومبرتو إيكو والكردينال كارلو ماريا مارتيني؛ والثاني تلك المحاورة الشهيرة بعنوان "حوار العقل والإيمان" التي جمعت بين البابا راتسينغر والفيلسوف هابرماس؛ والثالث بعنوان "الكردينال والفيلسوف" جمع بين المفكر الفرنسي لوك فيري والكردينال رافازي. نحن ما زلنا خارج هذا الضرب من الحوار، بين العقل الإيماني والعقل العلماني، وجزء من مصائبنا جراء غياب هذا التعاطي المتكامل مع المسألة الدينية، فنحن أبناء وطن واحد وثقافة واحدة ينبغي أن نجلس جنبا إلى جنب ونبني طريقنا وإلا سقط السقف على الجميع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل في جملة من البلاد العربية.
أضف إلى ذلك، وجود أمراض شائعة بين المشتغلين بالفكر في الساحة العربية، ولا سيما منهم الجامعيين، أنهم حوّلوا الجامعة إلى محل لصنع الثروة والوجاهة الزائفة بدل المعرفة والتنوير. في جامعة روما لاسبيينسا، وهي أكبر جامعة أوروبية على الإطلاق، عميد كلية الدراسات الشرقية يأتي إلى عمله على دراجة نارية، وأعرف أساتذة يأتون على دراجة هوائية، ولعل ذلك يمثّل فضيحة في الأوساط الجامعية العربية التي باتت تولي المظهر اهتماما يتخطى الجوهر.
المهدي مستقيم: هل يمكن أن تحدثنا عن بدايات أبحاثك التي خصت "نقد العقل الإسلامي"؟
عز الدين عناية: ما أتطرق إليه عامة هو تطوير التصور الإسلامي في النظر إلى العالم، لإيماني بأننا ما لم نغير مناهجنا فلن نعي العالم. كانت دراستي الجامعية الأولى في الزيتونة، وقد قضيت هناك زهاء العقد طالبا وباحثا، تقلبت الجامعةُ أثناءه بين مناخات فكرية متنوعة سلطوية وإسلاموية وصراعية، لذلك أقول: لا يعرف العشق إلا من يكابده ولا يعرف علل العقل الديني إلا من عاش داخل أحضانه. والخلاصة التي تراءت لي أن العقل الزيتوني قد غدا في عداد الأموات، فقد تلوثت المعرفة الدينية بالاغتراب وبالتحزب السياسي الانتهازي. لكن دراستي الثانية في وسط لاهوتي كاثوليكي في روما بينت لي، ومن باب المقارنة، مدى حيوية الآخر في تناول قضايا الدين، فأجد نفسي مدفوعا دفعا لتنبيه العقل الإسلامي بما حصل لدى الآخر من تطور، وما لديه من ورشات مفتوحة مشرعة على شتى المجالات.
كان كتابي الأول الصادر بالعربية بعنوان "الاستهواد العربي"، أي علم اليهودية، هو في الواقع رصد لما كتبه العرب خلال النصف الثاني من القرن الماضي حول الدين اليهودي، والتمعن في تلك الأدبيات من ناحية نقدية وتحليلية. رصدتُ وَهَنًا علميا كبيرا في ما كتبه العرب تجاه هذا الدين، أنتجنا خلاله سبابا وليس معرفة، شيدنا حول عقلنا سياجا ونحن لا ندري، لذلك كان تأثير العرب في الدراسات اليهودية العالمية لا يُعتدّ به وخارج التاريخ. في كتابي المذكور دعوت إلى مراجعة منهجية صريحة في التعاطي مع الدين اليهودي، فمن العيب أن يبقى التلمود خارج اللسان العربي، أي في الآرامية إلى العام 2012، مع أنه تراث نشأ في حضن حضارتنا بين بابل وأورشليم، حتى رعى ترجمته زيتوني فلسطيني الدكتور عامر الحافي والفريق العامل معه، وهو كتاب ضخم في عشرين مجلدا صدر في الأردن، والحال أن كثيرا من رؤانا الفقهية والتفسيرية مستوحاة من هذا السفر. بينتُ أن هناك حاجة ماسة للخروج من سجن الصراع العربي الإسرائيلي إن أردنا أن نبني علما ومعرفة صائبين، فلا يمكن أن نذود عن مقدساتنا وتراثنا في فلسطين بالتعاطي اللاعلمي مع التراث اليهودي والتناول الإيديولوجي.
عنصر آخر من جوانب الاهتمام بالعقل الديني شغلني، ذلك المعني بالمسيحية، وقد كان لي الاشتغال على المسألة في ثلاثة مؤلفات صدرت لي: الأول "نحن والمسيحية" والثاني "الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن" والثالث "رسالة إلى أخي المسيحي"، فضلا عن ترجمات مثل "الفكر المسيحي المعاصر" صدرت في سورية، ذكّرت فيها أن البلاد العربية، بمفهومنا الجغرافي اليوم، هي الأصل في المسيحية ولكن تلك المسيحية قد صودرت من ذاكرتنا ومن عينا ومن أوطاننا، وهي كفلسطين خُطفت منا في غفلة من أعيننا. فهل لدى المغاربيين دراية بالقديس أوغسطين ابن مثلث سوق أهراس وعنابة وقرطاج، وقد كان الأحرى أن يدرَّس في الزيتونة والقرويين. فمن هذه الانجراحات الغائرة في الذاكرة الدينية أكتب عن المسيحية.
أجرى الحوار: الكاتب المهدي مستقيم من مجلة "يتفكرون" المغربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.