بعد ما أطلق رئيس الجمهورية "الباجي قائد السبسي" مبادرته التي فاجأ بها الجميع…والتي كانت أبرز نتائجها اقرار ما سمي "بوثيقة قرطاج" وبسحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد وتشكيل حكومة جديدة تحت مسمى "حكومة الوحدة الوطنية" برئاسة يوسف الشاهد… كان من المنتظر أن ينخفض مستوى الاحتقان السياسي والاجتماعي على المستوى الداخلي وأن تنكب الحكومة الجديدة على حل المشاكل الكثيرة التي تعاني منها البلاد وخاصة على المستوى الاقتصادي… وأن يلتف حولها الجميع خاصة وأنها كانت ترفع شعارات رنانة من قبيل حكومة وحدة وطنية وحكومة محاربة الفساد وحكومة الانقاذ الاقتصادي وحكومة المصالحة الوطنية…. شعارات براقة كثيرة تم الترويج لها لتلميع صورة هذه المبادرة الرئاسية ولصورة الحكومة المنبثقة عنها… ولكن اليوم وبعد مرور ما يقارب الشهرين نرى تصاعد حدة الانتقادات الموجه لهذه الحكومة حتى قبل استكمال مهلة المائة يوم التي تم التوافق عليها ضمنيا بين جميع الأطراف السياسية لتقييم أداء الحكومة وذلك من طرف العديد من الأحزاب والمنظمات الوطنية خاصة بعد الكشف عن ميزانية سنة 2017 وأيضا بعد القرارت التي أعلن عنها رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد في خطابه أو حواره التلفزي ليوم 28 سبتمبر 2016 … لقد أكد الكثير من المتابعين أن تلك القرارت اتخذت بشكل منفرد ودون التشاور مع كافة الأطراف وفي تناقض تام مع ما جاء في وثيقة قرطاج… بل إن الكثيرين راحوا يؤكدون أن تلك القرارات جاءت استجابة لإملاءات الصناديق المالية الدولية المناحة للقروض والتي لا تخدم مصلحة البلد بأي شكل من الأشكال وأنها ستؤدي بالبلاد في حالة اعتمادها وتنفيذها إلى تدمير ما بقي من إمكانات إنقاذ الاقتصاد الوطني وأنها ستؤدي بالبلاد إلى وضع شبيه بما تعيشه اليونان…. هذا الاختلاف الحاد في وجهات النظر أعاد البلد بسرعة إلى مربع الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي … وأشعل من جديد حرب التراشق بالتهم بين سلطة وأطراف حاكمة تتهم من يخالفها الرأي بغياب الوطنية والمسؤولية وعدم مراعاة الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد…وبين معارضة سياسية وأطراف اجتماعية تتهم السلطة بالانقلاب على التوافقات وعدم احترام التعهدات بعدم الجدية في إصلاح الأوضاع وبغياب البرامج الواضحة والالتجاء إلى الوصفات الجاهزة للبنوك الأجنبية ذات التأثير المدمر على البلد وعلى الشعب…. إذا فالاختلاف في وجهات النظر وفي تقييم الأوضاع والحلول الواجب اتباعها بين الحكومة والمعارضة عميقة وكبيرة وعلى طرفي نقيض تقريبا ففي حين ترى الحكومة أن الحل في اتباع سياسة التقشف والترفيع في الضرائب والترفيع في العديد من الأدءات وفي تجميد الأجور وتجميد الانتدابات وفي الترفيع في سن التقاعد وفي تقليص نسبة دعم المواد الأساسية بشكل تدريجي ابتداء من المحروقات.. وفي تحقيق ما يسمى بالمصالحة الوطنية التي تطوي ملف المحاسبة وتمنح صك البراءة لكل من تعلقت بهم شبهات فساد في النظام السابق… فإن المعارضة ترى أن هذه الحزمة من القرارات لن تؤدي بالبلاد إلا إلى الهاوية فهي من ناحية ستكرس مبدأ الافلات من العدالة … وستضرب في مقتل المقدرة الشرائية للسواد الأعظم من التونسيين وستتسبب في ركود الاقتصاد وفي تجميد التنمية وفي ستتسبب في تغذية الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية… وتدعو بدلا عن ذلك إلى توخي سياسة محاربة الفساد ومقاومة الاقتصاد الموازي الذي ينخر الاقتصاد الوطني وإلى استخلاص المستحق من الضرائب على المتهربين والمتلاعبين وإلى إقرار عدالة جبائية وإلى توخي مقاربة متوازنة ومنصفة في تحمل أعباء الأزمة الاقتصادية لا تقدم الطبقات المتوسطة والضعيفة قربانا لها دون غيرهم من التونسيين… وفي ظل التمسك بالرأي الذي نراه من كلا الطرفين وخاصة من طرف الحكومة التي عمدت إلى استخدام كل الوسائل من أجل تمرير مشروعها بقطع النظر عن كل معارضيها… وبأسلوب فيه الكثير من التسلطية والانفراد بالرأي واتباع سياسة الهروب إلى الأمام… واعتماد أسلوب شيطنة كل الأطراف المخالفة لها وخاصة من خلال وسائل الإعلام التي لا تزال غالبيتها العظمى خاضعة للهيمنة والتي تعمل بكل وضوح حسب أجندات سياسية وإيديولوجية معلومة… فإننا نرى أن الأوضاع ماضية نحو التصادم مع ما في ذلك من مخاطر لا تخفى على أحد… فنحن لا نعتقد مدى خطورة مضي الأوضاع في تونس نحو الانفلات الغير محسوب العواقب في ضل احتقان سياسي واجتماعي كبير وفي ظل واقع أمني هش وفي ظل واقع اقليمي شديد التعقيد وملغوم…. إنه لا قدر الله وفي حال حدوث هذا التصادم فإن عواقبه ستكون كارثية على الجميع… ونحن كمراقبين نرى من خلال متابعتنا للعديد من التحركات والتصريحات والمتغيرات السياسية الداخلية وتغير العديد من التوازنات الاستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي وبشكل دراماتيكي وفي ظل واقع عالمي محتقن ومتصادم يوشك أن يتحول إلى حرب عالمية ثالثة وأن بشكل مصغر حطبها ووقودها شعوب المنطقة ومقدراتها… نرى أن العديد من الأطراف تدفع نحو هذا التصادم… إن عدم تغليب منطق المصلحة العامة ومواصلة المضي قدما في نهج الصراع المحموم على السلطة وعلى المواقع الذي تعيش على وقعه البلاد واستمرار الحرب الإيديولوجية الطاحنة بين مختلف الفاعلين السياسين على الساحة الداخلية والتي تأكد أنها حرب استئصالية….وفي ظل – وهو الأمر الأخطر حسب رأيينا – تواصل اعتماد العديد من القوى والشخصيات السياسية سواء في الحكم أو في المعارضة على الدعم الخارجي لتغليب جهة سياسية على جهة سياسية أخرى بما أفقد البلد استقلاليته وجعله مرتعا للتدخلات الأجنبية… وفي الغياب التام للشفافية والحوار … وفي غياب الاجابات الواضحة عمن يقف وراء الأحداث الخطيرة التي مرت بها البلاد من اغتيالات سياسية ومحاولات اغتيال ومن عمليات إرهابية وتهريب وفساد… مما أفقد الكل الثقة في الكل .. وجعل الكل يشك في الكل.. والكل يتهم الكل.. بما عمق حالة الشعور بالإحباط لدى الجميع …. سيجعل أي مواجهة محتملة أو صدام بمثابة وضع قطعة من الجمر على برميل بارود…. إننا لا نعتقد أن أحدا من الأطراف سواء كان ذلك في صف الأطراف الحاكمة أو صف الأطراف المعارضة لا يدرك مدى حجم مخاطر التصادم إن وقع لا قدر الله في ظل كل الواقع المحتقن الذي قمنا بتحليله آنفا… وإننا نعتقد أن تغليب المصلحة العليا للوطن يجب أن توضع بدرجة أولى أمام أنظار الجميع قبل اتخاذ أي خطوة في اتجاه إطلاق الشرارة الأولى لأي تحرك قد يفتح باب الجحيم على الجميع… لذلك فإنه على الجميع اليوم اتخاذ الخطوات الجادة والمسؤولة لتنفيس هذا التوتر الرهيب على البلاد والذي لن يكون مجديا إن كان لحساب طرف على طرف… نحن نأمل أن تصل صرختنا هذه إلى الجميع وأن يتم التدارك قبل فوات الأوان فالبوادر والمؤشرات التي نراها اليوم لا تبشر بخير… وإن لم يتحمل الجميع مسؤولياتهم وخاصة من طرف الحكومة التي يبدو أنها تعمل و في قطيعة تامة مع ما يدور حولها … وإن لم يقف الشعب بالمرصاد لحماية بلده مما يدبر له بالدفع نحو بناء مشروع وطني صرف يهدف بالأساس إلى حماية وصيانة الوحدة الوطنية والمصلحة العليا للوطن والشعب من خلال إبداء الرأي فيما يحدث من حوله وعدم فسح المجال أمام من هب ودب للتحدث باسمه والمتاجرة بعذاباته… فنحن لا نرى مخرجا للخطر الداهم الذي تهرول نحوه الأمور في بلادنا… أنقذوا أنفسكم… فإن الوقت يكاد ينفذ… وختاما وحتى لا نوصف بالعدمية والتشاؤمية… رغم أن الواقع من حولنا لا مؤشرات فيه وإن ضئيلة على بارقة أمل … فإننا نصر على أن تفاءل بالخير وأن نأمل أنه في تونس سيغلب منطق الحكمة على منطق التصادم وأنه في بلدي لا يزال هناك العديد من الرجال والنساء الوطنيين والوطنيات الذين يأبون لبدهم مصيرا مشابها لمصير اليمن أو سوريا أو ليبيا ..ذلك المصير الذي تدمع له عيوننا حرقة وتنفطر له قلوبنا ألما … حفظ الله هذا الوطن من كل مكروه… وجنبه كل المنزلقات الخطيرة .. وحصنه من كيد الكائدين ومكر الماكرين … ومتعه بالأمن والأمان على مدى الأزمان…