عذرا أماه كان بودّي أن أبقى بجوارك ولكني أرغمت على الرحيل، كان بودّي أن أكون هناك غير أنّي أجبرت على الفراق، كان بودّي أن لا أغادر بلدي ولكنني اضطررت إلى اختلاس الحدود، فأنا لازلت أتذكّر كل فصول الحزن، لازلت احتفظ بكل شروخ الرعب، لم أنس تلك الليلة الكالحة التي حوصر فيها بيتنا من طرف البوليس السياسي اقتحموا دفء عائلتنا، فتّشوا كلّ جيوبي فتّشوا مكتبتي، فتّشوا أوراقي، فتّشوا بيتي، فتّشوا كل كتبي ومجلاتي، فتّشوا أقلامي، فتّشوا جرائدي وكل كرّاساتي .لم يجدوا أسلحة تخريب، لم يجدوا "مولوتوفا" ولا رصاصا، لم يجدوا وسائل إرهاب ولا أدوات دمار، لم يجدوا أشياء ضدّ الممنوع، لم يجدوا عندي ألغاما يحرمها القانون، لم يجدوا عندي قنابلا ولا مفرقعات، فقط أمّاه حجزوا كل الكتب المتيّمة بالوطن، صادروا كل مقالات الشعر والثقافة قالوا إنّها ضدّ دولة القانون، خنقوا كل كتاباتي لأنها في رأيهم لا تخضع لترخيص، حجزوا أوراقي ونصوصي وقالوا إنها تحثّ على الفوضى والتحريض. أتذكرين أمّاه حين وضعوا القيود في يدي وأنت تبكين لحظتها كان الحزن والأسى يذبحانني، لم يكن هذا بدافع الجبن أبدا أمّاه بل بكاء على بلد انقلبت فيه كل المفاهيم، لازلت أمّاه أسمع صوت دموعك لما أركبوني سيارة الحكومة واتجهوا بي إلى محلات التفتيش. سوف لن أحدثك أمّاه عن كلّ ما حظيت به هناك في ظل "ضيافة القانون" سوف لن أحكي لك عن زنزانات الموت والعذاب لأنك قطعا ستنفجرين، سوف لن أروي لك كل أساليب القمع والإرهاب للإنسان في بلد يتغنى ويتباهى باحترام حقوق الإنسان لأنك قد لا تتصورين، سوف لن أقصّ عليك كل أساليب الانحطاط عند الاستجواب، سوف لن أصوّر لك رقصات السياط فوق ركح الأجساد، سوف لن أذكر لك أنين الموقوفين ولكمات الجلادين، سوف لن أصوّر لك زنزانات الموت والآلام في بلد يجهض الأمل ويغتال الأحلام، سوف لن أنقل إليك بعض الفصول من اغتيال قيم الإنسان كإنسان، سوف لن أحدثك أمّاه عن كل محطات العذاب، سوف لن أذكر كل ما سمعت وما شاهدت،سوف لن أقول كل هذا لأني ببساطه أخاف أن لا تتأخري في البكاء والعويل، وتصرخي عاليا وبدل أن تسبّي كل السماسرة والسفاحين، تلعني كل الوطن، هذا الوطن البريء من كل الجبناء والذي لن يركع أمام شطحات الوشاة وضربات الجلادين .هناك أمّاه وفي مركز التفتيش صلبوني من جديد، أعادوا معي حملة التفتيش نزعوا كل ثيابي وسألوني من أكون؟؟؟ * مواطن يعشق الأرض يحب سنابل الحقل ويتمسك بالجذور ◙ بل مخرّب يسعى إلى تقويض ركائز المجتمع المدني ويتستّر بالقانون.. ◙ مهنتك؟ * صحفي ◙ تكتب ضد من؟ * أكتب للحرية للإنسان وللوطن. ◙ بل تكتب ضد الأمن والنظام وأنت متهم بنشر الفوضى وعدم احترام قانون الإعلام… ◙ سنّك ؟ * ولدت "زمن الحصار" وتحديدا عند "نكسة الاستقلال "… ◙ انتمائك السياسي؟ * أنتمي للتاريخ للعرض، للأخلاق، للرفض،للتحدي، للقيم. ◙ إذا تعترف بأنك "الظلامي" القادم من التاريخ لتقوم بانقلاب،لقد ضبطنا معك قلم إرهاب… ◙ لفائدة من تشتغل؟ *لا يا أبناء بلدي لست عميلا قذرا، فمن أجل بلدي أشقى ولأجل بلدي أتعب ولأجلك يا وطني الحبيب أتحمل… ◙ هويتك؟ *مسلم عربي ولكم أن تبحثوا في كل كتاباتي أبدا لم تكن حروفي خليعة، ومفرداتي لا تعترف بالعهر السياسي وقلمي لا يمارس الدعارة الفكرية، وأوراقي لا تذبح الفضيلة، وألفاظي ترفض الزحف والركوع،ونصوصي لا تنحني أمام من اختلسوا ربيع الوطن .وإلى أن نلتقي أمّاه عبر سلسلة المقالات القادمة وعلى متن الحروف أرجوك لا تذرفي مزيدا من الدموع، ولتعلمي أمّاه أن أفظع غربة هي أن نكون غرباء ونحن بين أحضان الوطن. أرجوك لا تبكي كثيرا لعلّ الفجر يبزغ يوما في ديارنا وأعود من ديار "الحبشة " لنقيم عرسا على نخب انتصار الوطن ...………………. هذه بعض الخواطر الناطقة، والهاربة من مناطق الفجور السياسي،في بلد ارتطم الصدق بالرذيلة،واصطدمت فيه المثل بالانحراف، وذبلت فيه كل الأشياء الجميلة، وبدل أن نسمع سنفونية الحرية ما عاد يسمع غير صوت الرصاص ويرى غير القنابل تمسح الشوارع الحزينة، خواطر ليست بطولات وهمية من صنع الخيال والرواية، بل هي اعترافات شاحبة،لمتاعب صحفي تونسي، لم ينحن أمام الطغيان فحوكم بعامين سجنا تضاعفت مرتين بالغياب جزاء عدم تسبيحه. للسلطة فاختار الغربة والضياع على أن يخون الأرض والتراب والوطن. النص من كتاب حفريات في ذاكرة الزمن الصادر عن منشورات مرايا الطبعة الأولى باريس 2003 لمؤلفه الطاهر العبيدي