سلام عليك أيها اللامع المتألق الحزين الصابر ! قرأتُ أشعارك و رسائلك فما وجدتُ أعذب و أحلى من كتاباتك إلا كتابات المنفلوطي ! حكاية أبو القاسم الشابي مع الألم… مع وفاة والده سنده الكبير… مع فقدان حبه الأول… مع فشله في زواجه… مع معاناته مع مرض القلب و عدم قدرته على اللعب و النشاط البدني… و قد نصحه الأطباء بالتوقف عن كل نشاط بدني و فكري يرهقه و هذا ما كان يشقّ عليه… أبو القاسم الشابي شاعر الحياة رغم كل هذه المعاناة… شاعر الإرادة و الصّمود و العزيمة و الحرية و هو القائل في قصيدة " يا ابن أمّي " : " خُلقتَ طليقا كطيف النّسيم و حرّا كنور الضّحى في سماه … فمالك ترضى بذل القيود و تحني لمن كبّلوك الجباه ؟ … ألا انهض و سر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياه " أبو القاسم الشابي شاعر وطني يحبّ بلاده كثيرا و هذا نجده مثلا في هذين البيتين من قصيدة " تونس الجميلة " : " أنا يا تونس الجميلة في لجّ الهوى قد سبحتُ أيّ سباحه شرعتي حبّك العميق و إني قد تذوّقتُ مرّه و قراحه " لطالما كان حزينا متألما و كانت معظم أشعاره تبيّن ذلك… و لكنه واصل الحياة و لم يستسلم و لم ينزو في ركن مكتوف الأيدي شاكيا باكيا بل حوّل أوجاعه و أحزانه إلى أعمال فنية كتب فيها ما يحسّ و أفرح بها الناس. هذا هو الدّرس الذي نستخلصه من حياة شاعر الخضراء الكبير… إن الفن هو تحويل الألم إلى فرح بعمل يُسعد متلقّيه و يفيده و يعطي المجد للفنّان. إن الفن تصوير و تعبير و تنوير. و كم سعى الشابي إلى شحذ الهمم و إيقاظ العزائم و نقد السلبية و البرودة و اللامبالاة عند العامة و قد تجلّى ذلك بوضوح في قصيدته الرائعة " النبي المجهول " و التي شكا فيها تجاهلهم لخطابه و لمصلحتهم… و نلاحظه أيضا في قصيدة " أحلام شاعر " و التي قال فيها شاعرنا " ليت لي أن أعيش في هذه الدّن يا سعيدا بوحدتي و انفرادي أصرف العمر في الجبال، و في الغا بات بين الصنوبر الميّاد " أبو القاسم الشابي شاعر الطفولة و الرومنطيقية و الإحساس المرهف إذ قال في قصيدة " فكرة الفنّان " : "عش بالشّعور، و للشّعور، فإنّما دنياك كون عواطف و شعور " و قال أيضا في حزن لا يخفى على أحد : " و الشقي الشقي من كان مثلي في حساسيتي و رقّة نفسي " أبو القاسم الشابي شاعر الحبّ أيضا و من قصائده في هذا الباب " صلوات في هيكل الحبّ "… هل تعلم يا أبا القاسم أنّك اليوم أعظم أديب في تونس باتّفاق كلّ النّقّاد ؟ هل تعلم يا أبا القاسم أن المدارس و المعاهد و الأنهج و الشوارع تُسمّى باسمك ؟ هل تعلم أن وجهك الجميل موجود في ورقة 10 دنانير الأكثر تداولا بين الأوراق النقدية ؟ هكذا كنتَ دائما شاعر الشعب – رغم تجاهله لك في بعض الأوقات أو معارضة بعضهم لك – لا شاعر النخبة موجود بين كل الناس… فوجودك في ورقة 10 دنانير أفضل من وجودك في ورقة 20 دينارا أو 50 دينارا ! هل تعلم أنك من القلائل التي تُدرّس كتاباتهم في كل مستويات الدراسة من الابتدائي مرورا بالإعدادي وصولا إلى الثانوي ؟ هل تعلم أنك موجود في الطّوابع البريديّة ؟ هل يواسيك هذا ؟ ماذا كنتَ تقول في الثورة و الميوعة و الكسل و التواكل و الشكوى المتواصلة لسبب أو لغير سبب و كذب السياسيين على الناس و كذب الناس على بعضهم البعض و تدنّي الأخلاق اليوم أكثر من أي وقت مضى ؟ لماذا أسأل و قصائدك تكلّمت في كل هذا ؟ لقد كانت سابقة لأوانها أو هي صالحة لكلّ زمان و مكان. ألم يدعُ شاعر الخضراء إلى تحرير الوطن ؟ بلى، و من أشهر ما قيل في هذا الباب و يعرفه القاصي و الداني بيتان موجودان في النشيد الوطني التونسي و كانا من أبرز شعارات الثورة و هُمَا : " إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر و لا بدّ للظلم أن ينجلي و لا بدّ للقيد أن ينكسر " نأتي الآن إلى الدّرس الأهم من حياة سيّد الشّعراء أبو القاسم الشابي و الذي نستخلصه في الإجابة عن السؤال التالي : كم عاش شاعرنا ؟ لقد عاش أبو القاسم الشابي جسدا 25 سنة فقط ! و لكن ماذا أنجز فيها ؟ إن حياة المرء ليست بعدد السنين التي قضّاها على الأرض بل بما قدّمه من نفع للإنسانيّة. و هكذا فالشابي هو من أطول الأدباء عمرا و أكثرهم عطاء و نفعا. إنه درس للجميع و للشباب خاصة يجب أن يُدرَّس في مؤسساتنا التربوية. ماذا فعلتَ و ماذا قدّمتَ أيها الشاب خلال 25 سنة من حياتك ؟ ماذا ستفعل و ماذا ستقدّم أيها الطفل حين يصبح عمرك 25 سنة ؟ هذا عطاء أبي القاسم الشابي في 25 سنة فماهو عطاؤك أنت ؟ لا يقولون لكم أو لا تقولوا لأنفسكم مازلنا صغارا فالعمر يجري و يجب أن نستغلّ كل لحظة فيه و لا نعلم متى يأتي أجلنا و سيُسأل الفرد يوم القيامة من بين ما يُسأل عن عمره كيف صَرَفَه و عن شبابه كيف قضّاه ! و لتعلموا أن فترة الشباب حسب معظم المناجد و العلماء بين 18 سنة و 30 سنة ! فاستغلّوها و عمّروها بالخير بدل اللّهو الزائد عن الحدّ و الخارج عن اللياقة و بدل الفراغ و الانشغال بتوافه الأمور ! أنتَ يا أبو القاسم الشابي مدرسة نتعلم منها دائما و نحبك كثيرا ! فطب نفسا و قرّ عينا ! رحمك الله رحمة واسعة و جعلك في أعلى علّيّين في الآخرة مثلما كنتَ في الدّنيا !