يا لها من راحة حين أشاهد أفلام الأبيض و الأسود المصرية حيث يجتمع عمالقة الفن ليمتعونا بلحظات صدق و جمال فيها الكوميديا و التراجيديا و العبر المفيدة ! أفلام شادية و فاتن حمامة و يحي شاهين و إسماعيل ياسين و عبد السلام النابلسي و زينات صدقي و حسين رياض و عماد حمدي و عبد الوارث عسر و فردوس محمد و غيرهم تجمع بين حبكة السيناريو و روعة الأداء و حسن الإخراج. لقد جرّبتُ الانتقال من قنواتنا التلفزية " العصرية " حيث العراك أو الميوعة أو الرداءة إلى عالم الأفلام و الغناء في الزمن الجميل فوجدتُ نفسي أكثر هدوءا و راحة و مستمتعا بما أشاهد و أسمع. نفس الشعور ينتابني حين أستمع لحكايات عبد العزيز العروي الخالدة أو إلى أغاني محمّد الجمّوسي و علي الرياحي و السيدة نعمة و لطفي بو شناق و أم كلثوم و عبد الحليم حافظ و فيروز و محمّد عبد الوهّاب. إن هؤلاء الفنّانين صوتهم شجيّ مطرب مؤثر ينساب إلى الأذن بلطف فيحملنا إلى جوّ رائق و عالم جميل فيه النفس هادئة مطمئنّة. تستطيع أن تترشّف فنجانا من القهوة و تجلس على أريكة أو في الحديقة و أنت تستمع إلى هؤلاء المبدعين ساعة دون كلل أو ملل فتطرب و تتمتّع. المشكلة اليوم أن أكلاتنا سريعة و أغانينا سريعة و سياقتنا متهوّرة و حديثنا فيه العجلة و التّشنّج و تلاميذنا لا يركّزون و انتشر فيهم العنف و الحركية الزائدة حتى الكبار أصابتهم العدوى كلّ هذا مع بروز سلوكات غير حضارية هنا و هناك خاصة بعد أحداث الثورة. إن كليبات اليوم تكثر فيها الصور الرديئة و المتحركة بسرعة جنونية فالصورة لا تثبت أكثر من بضع ثوان بالإضافة إلى الرقص الجنوني و كثرة الحركات و الأضواء و هذا ممّا يسبّب ضعف التركيز لدى الناس. أما في الحوارات، فأغلبهم يريد أن يتكلم و لا يحب أن ينصت إلى الآخرين و لا يحترم أدنى قواعد النقاش فيخلق هذا تشويشا في ذهن المتقبّل. ثمّ إن المادة الإعلامية في عصر التكنولوجيا و الانترنات كثيفة تجعلك تقفز من قناة إلى قناة و من موقع إلى موقع مع تحصيل فوائد محدودة في كثير من الأحيان فتنطبق عليها المقولة " الكثرة و قلّة البركة ". و في هذا كلّه، لا نجد وقتا للسهرات العائلية أو لمطالعة كتاب نافع أو للجلوس لسماع أغنية مع ترشّف قهوة أو شاي ! لهذه الأسباب و لغيرها عمّ الاضطراب و القلق النفوس بشكل أو بآخر. و يبدو أيضا أن المشاعر أصبحت من " بلاستيك " لدى بعض الناس مثل الفلفل و الطماطم الاصطناعيّين. لقد دقّ ناقوس الخطر و منذ زمن، و لهذا يجب أن نعود إلى الأكلات الطبيعية الصحية بعيدا عن الملوّنات و لاننسى الأكلات التقليدية كالزميط و الدرع و البسيسة كما يجب أن نعود إلى الفن الأصيل كي تصفو أذهاننا من جديد ! إن مبدعي الزمن الجميل مظهرهم محترم و كلامهم رزين و منطقي فيه تسلسل الأفكار و الحِكَم كما لهم نفس هادئة طيبة تشعّ علينا فتمنحنا قبسا من نور العلم ! الضّغوطات و المشاغل و الأعمال كثيرة… لا ينكر هذا إلا جاهل ! و لكن علينا بالتخفيض من السرعة و اختيار أجود البضائع التي نُمضي وقتنا فيها حتى تستعيد الأرواح و الأبدان عافيتها من جديد.