أهمية النية في العبادات: إن للنية أهمية كبرى في عبادة المسلم، وعلاقته بربه فإن كانت هذه النية خالصة لله التزاماً بأوامره واجتناباً لنواهيه، فقد تحقق معنى العبادة والرجاء في صحتها وهذا هو معنى قول الله تعالى: {…فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110). أما إن كانت النية غير خالصة لله ارتد العمل على صاحبه، وكان جزاؤه عليه من جنسه. وقد بيَّن هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"[1]. كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يبعث الناس على نياتهم"[2]. وفي مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – أن النية شرطت في العبادات بالإجماع فلا تشترط في الوضوء والغسل ومسح الخفين وإزالة النجاسة الخفيفة عن الثوب والبدن والمكان والأواني للصحة ولكنها تشترط في التيمم. وفي النية أقوال كثيرة في المذهب معروفة في مظانها[3]. وفي المذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول الإمام السيوطي – رحمه الله -: "إن المقصود الأهم منها تمييز العبادات من العادات وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض كالوضوء والغسل يتردد بين التنظيف والتبريد والعبادة، والإمساك عن المفطرات قد يكون للتداوي والحمية أو لعدم الحاجة إليه، والجلوس في المسجد قد يكون للإستراحة، ودفع المال للغير قد يكون هبة أو صلة لغرض دنيوي، وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة .. فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها"[4]. وفي مذهب الإمام أحمد أن العبادة لا تكون إلا منوية؛ لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة له وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك إلا بغير النية، فصفتها في الطهارة – مثلاً – أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها كالصلاة والطواف، فلو نوى بالطهارة التبرد والأكل والبيع ونحو ذلك ولم ينو الطهارة الشرعية لم يرتفع حدثه؛ لأنه لم ينو الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فلم يحصل له شيء كالذي لم يقصد شيئاً[5]. حكم النية في صحة صوم رمضان المبارك وما إذا كانت شرطاً لازماً لصحة الصوم: لقد ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة أن النية تعد شرطاً لصحة الصيام استدلالاً بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لا عمل لمن لا نية له"؛ ولأن صوم رمضان عبادة، والعبادة اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى ولا يتحقق الإخلاص والاختيار بدون النية. وخالف في ذلك الإمام زفر، فعنده أن صيام رمضان جائز في حق المقيم بدون نية واستدل بقول الله تعالى: {…فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ…} (البقرة: 185). ففي هذه الآية أمر بصوم شهر رمضان مطلقاً عن شرط النية؛ لأن النية إنما تشترط للتعيين "والحاجة إلى التعيين عند المزاحمة ولا مزاحمة؛ لأن الوقت لا يحتمل إلا صوماً واحداً في حق المقيم وهو صوم رمضان فلا حاجة إذاً إلى التعيين بالنية"[6]. وفي مذهب الإمام مالك – رحمه الله – أن النية شرط في صحة كل صوم سواء كان فرضاً أو نفلاً أو قضاء، أو نذراً معيناً، ومستحقاً في الذمة[7]. وفي مذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – أن النية من فرائض الصوم ولا يصح إلا بنية عملاً بما مر آنفاً من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ولأن الصوم عبادة محضة فلم يصح من غير نية مثل الصلاة[8]. وفي مذهب الإمام أحمد – رحمه الله – لا يصح صوم إلا بنية سواء كان الصوم أو نفلاً؛ لأن الصيام عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة[9]. وعند الإمام ابن حزم – رحمه الله – لا يجزئ صيام شهر رمضان أو غيره إلا بنية، فمن تعمد تركها بطل صومه[10]. وعلى هذا فإن جمهور العلماء متفقون على أن النية تعد شرطاً لازماً لصحة الصيام خلافاً للإمام زفر – رحمه الله – الذي يرى أن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية – كما مر ذكره -. هل النية تجب في كل يوم من أيام رمضان أم أنها تجب مرة واحدة في بدايته؟ ففي مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – يشترط لكل يوم من أيام رمضان نية على حدة؛ لأن صوم كل يوم من أيامه عبادة لا تتعلق باليوم الآخر منه بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر[11]. وفي مذهب الإمام مالك – رحمه الله – إذا نوى لجميع شهر رمضان من أول ليلة أجزأه ذلك؛ لأنه " نية لصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم لا يتخلل النية والعمل المنوي زمان نهار فطر فأشبه إذا نوى اليوم الأول من ليلته وقت المغرب أو العشاء الآخرة"[12]. وفي مذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – تجب النية لكل يوم من أيام رمضان؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفردة تبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ولا يفسد اليوم بفساد ما قبله فلم تكلفه إذاً نية واحدة كالصلاة[13]. وفي مذهب الإمام أحمد – رحمه الله – تعتبر النية لكل يوم وفي رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر، إذا نوى صوم جميعه؛ لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم[14]. قلت: ولعل الصواب إن شاء الله أن تكون النية لكل يوم من أيام رمضان؛ لأن الصائم وإن كان يريد صوم جميع أيام رمضان، إلا أن نية تنصرف عملاً إلى صيام كل يوم بعينه، فهو – مثلاً – عندما يتسحر تنصرف نية إلى أنه سيصوم اليوم الذي استقبله. وعندما يفطر تنصرف نيته إلى أنه قد أفطر لذلك اليوم ويستقبل يوماً آخر وهكذا, لهذا يمكن القول أن كل يوم منه مستقل بصحة صومه أو فساده عن اليوم الآخر فاقتضى هذا أن تكون النية لازمة لكل يوم من أيامه. وقت النية: في مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – أن وقت النية من طلوع الفجر أن أمكنه ذلك أو من الليل فإن نوى بعد طلوعه فلا يجوز إذا كان الصوم ديناً أما إن كان صيام رمضان أو صيام تطوع فيجوز[15]. وفي مذهب الإمام مالك لا تجزئ النية بعد الفجر سواء كان الصيام فرضاً أو نفلاً بدليل ما روته حفصة – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر"[16]. وهذا يقتضي العموم في الصوم[17]. والراجح في مذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – أنه لا يصح صوم رمضان ولا غير إلا بنية من الليل استدلالاً بحديث حفصة – رضي الله عنهما – المتقدم ذكره[18]. وفي مذهب الإمام أحمد على الصائم أن ينوي الصيام من الليل معيناً[19]. قلت: ولعل الصواب إن شاء الله ما ورد في المذاهب الثلاثة – خلافاً للإمام أبي حنيفة بجواز النية لصوم رمضان بعد الفجر – بأن النية تبيت من الليل استدلالاً بحديث حفصة – رضي الله عنهما -؛ ولأن في تبيت النية من الليل استشعاراً وعزماً على أن الصائم سيصوم اليوم الذي يستقبله ابتغاء وجه الله. ولما كان الصيام يبدأ من طلوع الفجر عملاً بقول الله تعالى: {…وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ…} (البقرة: 187). فقد اقتضى هذا الحكم أن تكون النية قبل العمل لا بعده. وخلاصة ما سبق: أن النية شرط لازم في صحة الأعمال، ومن ذلك الصيام سواء كان فرضاً أو نفلاً؛ لأنه عبادة محضة تفتقر إلى النية مثله في ذلك مثل الصلاة وسائر العبادات، فمن تعند ترك النية لم يصح صومه. وتجب في كل يوم من أيام رمضان؛ لأنه كل يوم من أيامه مستقل بواجباته، وصحة صومه أو فساده عن اليوم الآخر. أما وقتها فهو من الليل استدلالاً بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر".