مقاومة الفساد هي من اكثر الملفات تعقيدا خصوصا اذا تفشى الفساد زمن ازمة اقتصادية و تغلغل في هياكل الدولة و الأحزاب. حسب علمي لا توجد دولة في العالم شنت حربا على الفساد و استطاعت ان تقضي على كل الفاسدين في بضع اشهر بل ان الأمر تطلب عشرات السنين للقضاء على هته الآفة أو على الأقل للحد منها، ولنا عبرة بما حصل في ايطاليا أو كولمبيا في الثمانينات والتي وصل الأمر فيها الى تدخل عسكري أمريكي. الحرب على الفساد تستوجب وضع استراتيجية متكاملة تشمل عدة جوانب أولها أمني و قضائي يبتدئ بايقاف بعض الرموز الخطيرة وتقديمها للمحاكمة. والجانب الثاني ردعي ينتج بطبيعته عن خوف البقية أو جانب كبير منهم من أن يكون لهم نفس المصير بمعنى انكماش وانسحاب العديد من الفاسدين من تعاطي الفساد خوفا من نفس مصير من تم إيقافهم. ثم هناك الجانب الوقائي وهو سن التشريعات الضرورية بما في ذلك تشريعات استثنائية لضرب هته الآفة ووضع اسس و هياكل رقابية جديدة أو تدعيم الهياكل القديمة وخصوصا تدعيم الجهاز القضائي بما يوفر للقاضي كل الآليات و الوسائل الحديثة لكشف الفساد وعدم الافلات من العقاب ولما لا تكوين جهاز من القضاة المتخصصين في مقاومة الفساد مع ضمان الحد الأقصى من الأمن لهم و لاسرهم وضمان عدم خضوعهم للمغريات أو التهديدات. و هناك ايضا جانب تنموي واقتصادي ضروري للحد من انخراط المواطن في الفساد بسبب الفقر المدقع، ففشل الحكومة في الحد من البطالة و التضخم المالي لا يساعد بتاتا على محاربة الفساد ولو أن اعلان هته الحرب في حد ذاته يساهم ولو رمزيا في خلق مقومات التنمية و التشجيع على الاستثمار الوطني و الأجنبي. وأخيرا يأتي الجانب الثقافي و التعليمي لوقاية المواطنين وخصوصا الشباب من الإنخراط في مسار الفساد، وهذا الجانب يستند خصوصا على تقوية الشعور بالانتماء الوطني بكل المؤسسات المؤهلة لذلك مثل خطب المساجد و وسائل الاعلام والمدارس ودور الثقافة و غيرها. لكن من يعتقد ان هناك عدالة في تتبع كل الفاسدين فهو واهم لان العملية معقدة قد تنجر عنها كوارث اقتصادية و سياسية و حتى أمنية، بل يجب التعامل معها كل حالة على حدة و بكل حرفية وتدرج مع الأخذ بعين الاعتبار المخاطر و موازين القوى بين المتصارعين بين من يقاوم الفساد و من يتعاطاه. صحيح أن رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد لم يعلن لحد الآن عن استراتيجية واضحة لحربه على الفساد وصحيح ايضا ان النظام السياسي في تونس لا يساعد كثيرا على الانتصار في هته الحرب لعدة اعتبارات لا فائدة في ذكرها. لكن الأكيد أن أعظم هدية وأكبر دعم يمكن ان تقدمه اليوم للفاسدين هو التشكيك في الحملة ضد الفساد. فحتى لو إفترضنا جدلا أن الشاهد (كما يصر على ذلك بعض السياسيين) ليس جادا في حملته ضد الفساد وانها مجرد مسرحية وتصفية للحسابات السياسية فما الضرر من إيقاف بعض الفاسدين؟ إن انخراط الشاهد اليوم في هته الحرب يجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن نشكك ونتذرع بشتى الحجج لنعطل و لنوقف القاطرة التي وضعها الشاهد على السكة لمحاربة الفساد و التي بدأت تتحرك ولو ببطئ. و إما أن نساهم في دفع هته القاطرة لنقوي من نسق سرعتها بما يجعل إيقافها أمرا مستحيلا حتى على الشاهد نفسه لو حاول التراجع عن حملته.