من المواقف المتميّزة التي تُحسب إلى سيادة رئيس الجمهورية المؤقت محمد المنصف المرزوقي قوله حين سُأل عن رأيه فيما يُقال عنه في الصحف والإذاعات والتلفزات من شتّى النعوت المُحِطّة من شأنه وظهوره بذلك الشكل فيما يعرف بالقلابس قولُه بأنّه بصدد ترويض نفسه كبقية التونسيين على الديمقراطية وقبول الرأي والرأي المخالف والذي قد يصل حدَّ التجريح وبأنه آل على نفسه بألا يشتكي يوما صحفيا أو وسيلة إعلام مهما كانت درجة الإساءة طالما يحمل صفة رئيس الجمهورية ولأنّنا بالفعل حكّاما ومحكومين سياسيين وشعب كريم نعيش مرحلة انتقال دقيق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية علينا أن نتنبّه جميعا إلى أنّ المسافة الفاصلة بينهما تُقدر بالكيلومترات كما قد تتقلّص إلى بضعة أمتار أو حتى سنتمترات . فإذا كانت الدكتاتورية تفرض هيبتَها واحترامَها بحدّ التخويف والترهيب واستعمال القوّة بقدر من تكون هذه الهيبة من صميم الديمقراطية نفسها لأن ماهية الديمقراطية بامتياز هي مؤسسات مُنتخبة تحتكم إلى قوانين معلومة ونواميس مضبوطة يخضع لها الكل الفائز والمنهزم ولا تتغيّر بتداول أحدهما على موقع الآخر . فصاحب الشرعية هو الفائر بأغلبية أصوات الناخبين ومعارضوه لهم حق معارضة مشاريعه وطروحاته ومرجعيته الفكرية والسياسية بالطرق التي تحدّدها الديمقراطية والمؤسسات المنبثقة عنها دون التجرّؤ على المسّ من شرعية الطرف الأول وتمثيليته للأغلبية ولرمزية الدولة وأجهزتها السّيادية ما جرّني لهذه المقدّمة هو ما شاهده ووقف عليه كل التونسيين بل والكثير من دول الجِوار والخارج من اعتداء مجاني همجي على رمز الدولة الأول رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني التأسيسي صاحب الشرعية الأولى المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر , يوم 17 ديسمبر الجاري في سيدي بوزيد بمناسبة إحياء الذكرى الثانية لاندلاع ثورة الحرية والكرامة . فقد استُهدف الموكب الرسمي للرمي بالحجارة والبطاطا والطماطم دون اللّغة “الديغاجية” التي باتت عزيزة على قلوب الكثير من التونسيين , وتحوّل موكب الاحتفال من مناسبة وطنية تجمع كل أبناء الوطن الواحد إلى لحظة مقيتة مزعجة حملت إلينا رسالة مضمونة الوصول من الخارج مفادها : إذا كنتم أيها التونسيون لا تحترمون رموز دولتكم وأوّلهم رئيسكم الذي يُصدر القوانين والأوامر باسمكم وتعبّروا عن غضبكم من وعود لم تُنجز -وهذا حقّكم المشروع- باستهدافه بالحجارة وتوابعها فهذا يعني أنكم لا تدركون معنى السيادة وهيبة الدولة واحترام القانون , وهذا يعني أنّكم تشجّعون الأوباش منكم على التعدّي على كل ما يمثل القوانين ونفاذها وأنّكم بالتالي تعملون على اضمحلال دولتكم وإشاعة قوانين الغاب وقطّاع الطرق فيها , وهذا يعني إمّا أنّكم تحنّون إلى الدكتاتورية أو إلى أطماع القوى الاستعمارية وانتصابها من جديد على أراضيكم لتحكُمكم بعد حوالي الستين عاما من استقلالكم دفع خلاله أجدادكم وآباؤكم دماء غزيرة من أجله وأنا على يقين بعد هذا أنّ ما جرى يوم 17 ديسمبر بسيدي بوزيد لا يعبّر إطلاقا عن أخلاق وسلوك غالبية أبناء هذه الولاية المناضلة لكنّه رغم ذلك سيبقى وصمة عار في رصيدها يُقضُّ مضجع مناضليها وأحرارها ونخبتها وشرفاءها , لإيمان عميق بأنّ هؤلاء لن يرضوْا أبدا بأن تمرّغ حفنة من الهمج والمجرمين سمعتها في الوحل , ولأنّي أعتقد أيضا بأن معارضة حكومة الترويكا وتوجهاتها وخياراتها وعدم إيفاءها بالعديد من الوعود هو شأن يكاد يصبح الخيطَ الجامع بين أغلب التونسيين في كل المناطق هذه الأيام لكن دون الوصول إلى حدّ التطاول والاعتداء على رموز السيادة والدولة , فتلك خطوط حمراء لا يُسمح بتجاوزها ووجب على الجميع الوقوف صفّا واحدا في وجه العابثين والجهلة والمُبشّرين بشريعة الغاب , لأنّ الأمر يتعلّق ببساطة بدولتنا تونس التي يقول نشيدها الوطني : فلا عاش في تونس من خانها* ولا عاش من ليس من جندها نموت ونحيا على عهدها * حياة الكرام وموت العظام