أيها التونسيون، يا أبناء بلدي، يا كل الثائرين الذين كانوا بركان غضب ضدّ القهر والطغيان، ضدّ الوشاة وضد كل حمّالي الحطب … . يا أيها الواقفون في عمق العاصفة دون سقوط دون انحناء رغم رياح السموم ورغم كل عناوين التعب. يا أيها المتسامقون مع التربة والأرض والحقول كأشجار الصفصاف والرمّان والزيتون وكشجر العنب . يا كل الصاحين والمستيقظين في زمن السقوط، استسمحكم في القول لأقول لكم باختصار دون بكائية وفوضى الكلام، أنا مواطن تونسي المولد والمنشأ والانتماء ، أسمّى ، ” أحمد الورغمي “.. ، مواطن مثل الكثير من المواطنين الأبرياء، الحالمين بالعدل والحرية والكرامة، والمتشبث بالأصول والإنتماء أرفض أن أكون نسخة بالكربون لأيٍّ آخر، معتز بأن أكون مثلما أنا. آمنت وأؤمن منذ اجتاحتني دماء الشباب، أن ثمن الكرامة والحرية فادح ولكن السكوت والاستكانة للذل أفدح . بصمات على ظفاف الجراح اعذروني يا كل التونسيين الأشاوس فمحدّثكم ” أحمد الورغمي ” مسافر لا محطات لي ولا مرافئ ولا سفن، وأكتب لكم هنا على ضفاف الجراح، قصة قطار العمر المهتوك وملامح تجاعيد الجسم المنهوك طيلة عشرين سنة من النضال دون تراجع ولا هروب من الميدان، متدثر بعشق وطني تونس الخضراء ومعطوبا بغربة بلغت عشرين عام، دفعت فيها من دمي من عرقي من تعبي من وجعي من سهري من ترحالي وسفري أحلى سنين الشباب وأجمل أعوام عمري تبرّعت فيها بشقائي وحلمي ونبضات جسدي مؤمنا قناعة أن لا قيمة لنضال لا يحدث ارتجاجا في قشرة الكرة الأرضية ولا يحدث تغييرا في خريطة الدنيا وخريطة الإنسان. في حلقي بحار من الملح أيها التونسيون يا عنوان التحدّي والرفض، حكايتي أو إن شئتم مأساتي ابتدأت سنة 1992، حين فتحت عينيْ على صفوف القهر والتعذيب التي كانت نصيب الآلاف من أحرار شعبي، حيث عُسْكِرَتْ البلاد وصُودِرَ الرأي وخُتِنَ اللسان، وانقضّت على شعبي ثقافة الرداءة والضحالة والاضمحلال، وباتت الوطنية تسند رشوة لمن يهتفون بهتانا بحياة ” زين العابدين بن علي ” صانع التغيير وحامي حمى الدين والديار، كما تسمّيه تملقا وسائل الإعلام، ما خلّف في حلقي بحارا من الملح والفجيعة تجاه وضع صار عنوانه ” سيستيم الفساد “. من هنا كان لزاما عليّ أن أنحاز لطوابير الأحرار، وأصطف إلى جانب كل الأخيار، من أجل أن أساهم مثل باقي الشرفاء في خلخلة جدار الصمت، ومقاومة الطغيان، عبر المشاركة سلميا في كل التظاهرات والاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات والتجمعات والتحركات والإضرابات، لأجل التصدّي لظلم النظام، وكشف وجهه الخفي أمام العالم وعند منظمات حقوق الإنسان. ولم أتأخر يوما وفي كل المناسبات، طيلة عشرين عام من التجنّد من أجل المساهمة وغيري من الأوفياء، في المطالبة بحرية الرأي والتعبير والكلام وتكسير ثقافة الأحادية ولغة الأصنام . وجع لم تضمّده السنون ولا الأيام أيها التونسيون، يا من كانوا لؤلؤة ثورات العرب، لأجل أني رفضت الذل والهوان ورفضت السكوت والصمت، كانت فاتورتي باهظة الثمن، حيث طُلِّقَتْ زوجتي في غيابي غصبا وبأمر من محاكم التفتيش وبإيعاز من سلطة أبي لهب، نكاية في ونوعا من التشفّي والقصاص لأني بِتُّ في نظر دولة التحايل والنهب، مصدر إزعاج وعنوان شغب، ومع ذلك واصلت الطريق والمشوار ولم أتراجع عن هذا الخيار، رغم مرارة الوضع وقسوة القرار، حيث فصلوني عن زوجتي وَبِنْتَيْ وَوَلَدَيْ فحرمت من أبنائي الأربعة طيلة عشرين عام، وظل فراقهم نزيفا صاحيا يصيبني بحمّى الوجعية والأرق متسللا بين الضلوع كالصداع كالألم وكالتعب، لم تضمده تراصف الشهور ولا تزاحم السنون ولا تتالي الأيام. مؤمنا بأن الباطل ساعة وبأن العدل إلى قيام الساعة، ومقتنعا أيضا بإحدى مقولات جبران خليل جبران ” إن البلابل لا تحيك عشّا في القفص حتى لا تورّث العبودية لصغارها ” . اعذروني فليلي جد طويل أيها التونسيون في كل المناطق والجهات، في سيدي بوزيد، والقصرين، وتالة ومدنين والكاف وقفصة، وغيرها من مدن الرفض والغضب.. يا كل الثائرين في كل مكان وزمان، اعذروني فليلي جد طويل، وهمي جد ثقيل، والحديث اليكم هو بعض من التنفس والتعبير، فأخوكم “أحمد الورغمي ” مخضب بالأوجاع والأحزان والشجون، فمأساتي متعددة الصفحات والفصول، ومع ذلك ما زلت واقفا أرفض الجُثُوَّ والزحف على البطون، كما أراد لي نظام ” بن علي ” الذي كنسته الجماهير وأصبح عنوانا رديئا من نفايات التاريخ، حيث لم يكتف بحرماني من أبنائي وأهلي وبلدي وأرضي وتدمير أبهى سنوات شبابي وعمري، بل لاحقتني أذرعه بمنفاي وأصابتني بالأذى، كي يُؤَلِّبَ ضدي السلطة الفرنسية حيث أقيم هنا، وتصنيفي بأني رجل خطير، وأني مبوَّبٌ حسب تقارير الباطل والتزوير ضمن قوائم الإرهاب، مما جعل معاناتي تتشعب وتزداد، حيث تعطل استقراري في هذه البلاد، وبِتُّ بلا وثائق ولا هوية ولا أوراق، بلا شغل بلا مأوى طيلة كل هذه السنوات، رغم أني متحصل على الموافقة على اللجوء السياسي، غير أن السلطات الأمنية الفرنسية رفضت تمكيني من بطاقة الإقامة طيلة كل هذه الأعوام، استنادا الى تقارير الوقيعة والأراجيف والأوهام. كنت وسأظل خنجرا في لحم الاستبداد يا أيها الوزراء يا كل وزراء بلدي الذين أعرف أغلبكم بالإسم والألقاب، ففيكم من كان في فرنسا هنا ويعرف قضيتي وجراحاتي النازفة وكل التفاصيل، وأولهم كاتب الدولة للهجرة، الذي ما إن مكناه من جمع الأصوات، ويفوز وحزبه في الانتخاب، ليصل إلى الحكم ويصبح نجما في منابر الإعلام، حتى سرعان ما نسي مواطنه ” أحمد الورغمي ” الذي تنهبه الغربة والخصاصة وكل أنواع الاحتياج، مواطنه المحروم من دفء عائلته هنا وهناك، مواطنه الذي لا يملك هوية ولا وثائق استقرار، ورصيده في الغربة والمنفى الذي طال، سوى عمر يميل نحو الاصفرار، وجسد يتدحرج نحو الذبول والهزال، وروح يعطبها الحنين ويصرعها الشوق والاشتياق، وأنت يا سيدي كاتب الدولة للهجرة كأنك لا تسمع ولا ترى، ولا تترك مناسبة إلا وتذكرنا على الهواء، أنك رجل دولة وأن مهمتك الأساسية الاعتناء بكل المواطنين المهاجرين والمهجَّرين في كل الإنحاء . فها أنا أحد هؤلاء الذين تعرفهم جيدا من بين من مهَّدوا مع غيرهم في الداخل والخارج إلى كنس الجبناء، وممَّن ساهموا استيباقا مع الوطنيين الأحرار في تعبيد الطريق نحو ربيع غيَّر الجغرافيا والتاريخ والأجواء، وإن كُنْتَ نَسَيْتَ أن تناسيت فدعني أقول لك يا سيدي ” أنه لو دامت لغيرك لما آلت إليك ” كما استسمحك في قول بعض ما ينفعك مع تآكل الأيام، لأ ذكرك يا سيدي بأحد مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أحد المناسبات حين قال “لو تعثرت دابة في أرض العراق لكنت مسئولا عليها أمام الله لأني لم أمهد لها المطية ” .