كشف لنا الزمن التونسي عاميْن بعد الثورة بأنّنا نحيى على وقع زمن الانحطاط بعد زمن الرداءة ، زمن تنتفي فيه أبسط مقومات العقلانية والموضوعية الضروريتيْن في إدارة الأوطان خاصّة تلك التي شهدت هزّات سياسية واجتماعية كبرى ، إنه الزمن الذي نزل فيه الكائن التونسي إلى الدرك الأسفل نتيجة إشاعة ثقافة الجهل والشعوذة السياسية ، والارتهان إلى سلطة الخرافة في زمن فتوحات العقل. إن السعي إلى تشخيص معالم التخلّف في هذا الوطن الكئيب ونحن نشهد صعود نجوم الجهالة السياسية وفتاوى الضلالة الشرعية يحتّم طرح السؤال التالي : إلى أي حد مكّنت الثورة العقل التونسي من القطع مع ترسبات الماضي السياسي العقيم ؟ إن نظرة تأملية إلى خارطة وطننا اليوم تكشف أن هذا الأخير عاد ليعيش في كهوف الظلام ، وتفصل بينه وبين عصر التنوير، والاحتكام إلى سلطة العقل قرون عديدة ، فالزمن الذي نحياه اليوم يذكّرنا بالعصور الإقطاعية والقروسطية ؛ ذلك أن الذي يتحكّم في العقل السياسي هو سلطة القمع والخنق والأمّية والجهل لا جدال بأنّ التونسيين عاشوا لأكثر من ربع قرن من عُمُر دولتهم المستقلّة زمنا رديئا حوّل يومهم إلى ليل مظلم دامس ، ولكنّهم يكتشفون اليوم بأنّهم تحوّلوا من زمن الرداءة إلى زمن الانحطاط ، زمن فرض عليهم الاستماع إلى البحري الجلاصي وعادل العلمي وإبراهيم القصاص والحبيب اللوز وسنية بن تومية ودغيج وريكوبا وغيرهم كثيرون ، وإلى مهاتراتهم وشطحاتهم غير المُصنّفة لا في منطق السياسة ولا الدّين ولا الاجتماع ولا الاقتصاد لا أدري كيف تمّ الانتقال بنا من زمن إلى آخر في غفلة من عقل التونسي وانحباس ملكة الفكر المتنوّر لديه ، ولكنّه بالتأكيد زمن لا يمكن وصفه بغير عصر الانحطاط ، عصر ارتفع فيها سهم الجاهل الجريء وانخفض سهم العالم المتواضع لدرجة بات فيها منبوذا مطرودا تائها في مجتمع تآمر مع النظام من أجل نشر الجهل والأمية. إنّه العصر الذي يشهد مصادرة الدولة وارتهانَها لدى قلّة من عديمي الكفاءة والخبرة ، عصرٌ لم يسلم فيه قطاع واحد من كلّ القطاعات التابعة للدولة بالخصوص من المحسوبية والجهوية والاعتبارات الحزبية الضيّقة ، واعتلاء أشباه المتعلّمين والمتخصّصين المناصبَ القيادية تاركين وراءهم العلماء وأصحاب الكفاءات في المناصب الدونيّة لقد انتقل النظام الرديء من زمن إلى نظام آخر منحط ، لكنّ الأسوأ يكمن فيما هو قادم ، إذْ يعيش النظام الأخير على أمل الانتقال بنا إلى زمن الحريم والجحيم و"التاكسي بي بي" كما يبشّرنا به الجلاصي والعلمي والقصّاص ، حيث الحياة لا تُعطى إلاّ برخصة من الحاكم الواحد القهّار… تنويه: كل ما ينشر في هذا الركن لا يعبّر إلا عن رأي كاتبه