نحتفل اليوم بكل فخر واعتزاز بالذكرى الثامنة والخمسين لانبعاث الجيش الوطني الباسل، الحافل تاريخه بالبطولات والملاحم عبر كل العصور، ما جعله يختزل القيم الوطنية في أسمى معانيها، ويشكّل مدرسة عسكرية لها خصائصها المتميزة وأبرزها الانضباط والمهنية والتمسك بالشرعية والدفاع عن القيم المدنية ومبادئ الدولة الحديثة. علينا جميعا اليوم بمناسبة هذه الذكرى المجيدة أن نترحّم على أرواح الشهداء، الذين قدّموا أنفسهم قربانا لهذه القيم وللوطن ونسأل الله العلي القدير أن يسكنهم فراديس جنانه وأن يجعلهم في مقام الشهداء، وأن يرزق عائلاتهم وأبنائهم الصبر لتبديد وحشة الفقد والفراق، وأن يعجّل بشفاء من أصيب أثناء القيام بواجبه المقدّس. ونودّ بهذه المناسبة التوجّه لعائلات العسكريين من أمهات وآباء وزوجات وأطفال لأشكرهم جزيل الشكر على صبرهم وتحملهم ومعاناتهم وهم يضعون أحبّ الناس إليهم على ذمّة الوطن ليعيشوا شظف العيش والخطر حتى يعيش بقية التونسيين في رفاهية وأمان إنني أقول لهم باسم كل التونسيين والتونسيات : بلى نحن واعون وممتنون وشاكرون وداعمون . نعبّر أيضا لكافّة العسكريين من جيوش البر والبحر والطيران والمصالح المشتركة، عن تقديرنا العميق والصادق لما تتحلّون به من انضباط والتزام ونكران ذات وحبّ لتونس وما تبذلونه من جهد سخيّ في سبيل مناعتها وإعلاء شأنها بين الأمم. أيها الضباط وضباط الصف ورجال ونساء الجيش، ويحق للتونسيين والتونسيات أن يفتخروا بجيشهم العتيد، الذائد عن حياض الوطن، المحافظ على سيادته وعلى أمنه والضامن لتواجده في ما بقي له من تاريخ طويل حرّا كريما. وقد أثبت الجيش الوطني منذ انبعاثه، قدرات فائقة على لعب الأدوار الأولى في مختلف المحن والأزمات. هكذا بقي مؤسسة جمهورية في جوهرها، ومبادئها وعقيدتها، وملتزمة بالشرعية القانونية وبحيادها. ولقد مثّلت هذه الخصوصية سبب نجاح القوات المسلحة التونسية في القيام بمهامها على النحو الذي يرتضيه الواجب الوطني وتطلعات المجتمع. ولقد كان للجيش الوطني موعد آخر مع التاريخ حين لبّى نداء الواجب، لحمايةً الثورة، ثورة مثّلت مرحلة جديدة مفصلية في تاريخ تونس الحديث. وقد اضطلع خلالها الجيش الوطني بدور بارز في حماية البلاد والعباد وتأمين مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسير العادي للحياة بشكل عام، وكذلك انتخابات المجلس الوطني التأسيسي…ولا زال له دور كبير في تأمين الانتخابات المقبلة التي ستنهي المرحلة الانتقالية وتضع نهائيا أسس الدولة الديمقراطية ناهيك عن دوره المقدس في حماية حدودنا ومنع الجماعات الارهابية من النجاح في مخططها الجهنمي : إفشال بقية المسار الانتقالي ومنع قيام الانتخابات و انتصاب الدولة الديمقراطية أيها الضباط وضباط الصف ورجال ونساء الجيش، نعيش اليوم، أوضاعا أمنية واجتماعية واقتصادية صعبة، بفعل التحولات الحاصلة، في الداخل وفي المنطقة، وما ترتب عنها من تحديات. ولعل أبرزها تلك التي تهدد أمن بلادنا في هذه المرحلة الدقيقة من حيث الحجم والنوعية. وهي الإرهاب والتهريب والجريمة المنظّمة فضلا عن ظاهرتي الفقر والبطالة، وأحسب أنهما من الأسباب التي ساهمت في هذه الظواهر الخطرة، مستهدفة بذلك الأمن والاقتصاد والصحة والسياسة والثقافة والحضارة والمجتمع. إن مواجهة هذه المخاطر والظواهر والتغلب عليها لحماية مكاسب الثورة من تبعاتها لن يكون إلا بإرساء منوال تنموي بديل وشامل، كفيل ببناء مجتمع مدني متماسك، وناهض بنفسه، ودولة ديمقراطية آخذة بأسباب العدل والعمران، وضامنة لعوامل الأمن والاستقرار. وقد برهن العسكريون في الروحية وفي بئر علي بن خليفة وفي قبلاط وفي منطقة بن عون ومنزل نور وفي بوشبكة وفي جبال الشعانبي والسمّامة والسلّوم والمغيلة وعبد العظيم، عن وفائهم للوطن وعزمهم على حماية حدوده وخاصة منها الشرقية من المجموعات الإجرامية المارقة عن المجتمع، في تحدّيها السافر للدولة ومؤسساتها، كلّفهم ذلك ما كلّفهم، ناذرين أنفسهم فداء للوطن، حتى يكون كل شبر منه آمنا ومصدرا للعطاء والحرية. أيها الضباط وضباط الصف ورجال ونساء الجيش، واعتبارا لجسامة مهام المؤسسة، فإنها بحاجة ماسّة إلى التطوير للارتقاء بقدراتها العملياتية إلى مستويات رفيعة في كافّة الاختصاصات العسكرية. وتبقى الدولة الديمقراطية الناشئة خير سند لمؤسساتها، في إطار علاقة جدلية فاعلة وناجعة. وإذا كان للدولة الديمقراطية دور هام في دعم المؤسسة العسكرية وتنزيلها المنزلة الرفيعة ضمن مؤسسات الدولة بالسهر على حيادها والتزامها بمبادئ وقيم الحوكمة الرشيدة، فإن للمؤسسة العسكرية أيضا دور في المساهمة في توفير عوامل بناء الديمقراطية الناشئة من أمن واستقرار، وصون لمقومات الجمهورية، ومعاضدة لمجهود الدولة في مجال التنمية. وفي هذا المجال، فإن تعبئة الموارد الوطنية أمر ضروري لتوفير ما تحتاجه المؤسسة العسكرية من تجهيزات ومعدات، تحقيقا لنجاعة الوحدات البرية والبحرية والجويّة في مجال التوقّي والتدخّل لمجابهة الأخطار، فضلا عن التكوين الذي يشكل حجر الزاوية في المنظومة العسكرية. ففي مجال التعليم العالي العسكري، فإن لهيئة الضباط المدرسين الباحثين للتعليم العالي العسكري، التي تم إصدار نظامها الأساسي الخاص في جانفي 2014، دور هام في تدعيم التكوين والدراسات والبحوث المتعلقة بالاختصاصات العسكرية بما من شأنه أن يطوّر المنظومة العسكرية والقدرات العملياتية للجيش الوطني اعتمادا على طاقاتنا المتخرجة من الأكاديميات والمدارس العسكرية الوطنية والأجنبية وتوظيفا لمكاسبهم المعرفية والعلمية. وفي هذا المجال، فإن للتعاون الدولي في المجال العسكري مع الدول الشقيقة والصديقة، أهمية كبيرة في تطوير القدرات العملياتية وخاصة في باب التكوين والتدريب والصناعة العسكرية . أيها الضباط وضباط الصف ورجال ونساء الجيش، إن أمن تونس مسؤولية المجتمع بأكمله، هياكل وحساسيات مدنية وأفرادا، وتبقى المؤسسة العسكرية في مقدّمة هذه القوى الوطنية، حارسا أمينا للوطن. واعتبارا لما يمتلكه شبابنا من قدرات ومؤهلات ، فهو مدعو إلى الإقبال على أداء الخدمة الوطنية بكل تلقائية، بما يجسم المواطنة في أسمى معانيها لذلك ندعو شبابنا إلى الانخراط في جيشنا الأبي لا لأنه حامي الحمى ولكن لأنه أيضا مدرسة القيم التي نحن اليوم بأمسّ الحاجة إليها لبناء وطن نفاخر به ويفاخر بنا. أيها الضباط وضباط الصف ورجال نساء الجيش، أمام غزارة عطائكم وتضحياتكم الجسام، فإنه من واجب الدولة والمجموعة الوطنية أن تشد أزركم، وذلك بمزيد دعم وتطوير الإحاطة الاجتماعية في مجال السكن العسكري والصحة العسكرية والنقل العسكري، فضلا عن تقديم العون المادي والرعاية الصحية والنفسية لعائلات وأبناء العسكريين الذين استشهدوا فداء للوطن، وذلك رفعا لمعنويات جيشنا الأبي واحتراما لمكانته ودوره في المجتمع. وإننا إذ نجدد ثقتنا بكم وبقدراتكم وكفاءاتكم، نوصيكم بالمثابرة وملازمة اليقظة في أداء واجبكم بكل إخلاص وتفان، وفاء لنظامنا الجمهوري، وذودا عن الوطن ودعما لعزته ومناعته، وحماية لثورته، وتزكية وتخليدا لأرواح الشهداء، وتأمينا للانتقال الديمقراطي. وستبقى تونس عصيّة على كل من يهدّد أمنها وشعبها في الداخل والخارج، بما لها من جيش وطني باسل، ومنجزات حضارية ورجال ونساء وشباب، صنعوا التاريخ الحديث بثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. عاش جيشنا الوطني الأبيّ،عاشت تونس حرّة منيعة أبد الدّهر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.