لقد تلاشت الآمال التي جرى التعويل عليها في ثورة العام الماضي، وانتهى بها الأمر إلى مجرَّد رقابة متواصلة وتعصُّب متنامٍ وبطالة. تلك هي النتيجة التي خلُص إليها روبرت فيسك، كبير مراسلي صحيفة (إندبندانت) البريطانية في تحقيق مصوَّر نشرته الصحيفة في عددها الصادر اليوم الثلاثاء. يبدأ الكاتب تحقيقه الميداني بسؤال لا يخلو من مفارقة وإسقاط لما تشهده تونس اليوم على مرآة ما شهدته منذ عام ونيِّف عندما اجتاحتها ثورة شعبية عارمة أطاحت بنظام رئيسها السابق زين العابدين بن علي الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لأكثر من 23 عاما. يسأل فيسك: هل تود أن تتذكر كيف كانت عليه الحال زمن زين العابدين بن علي؟ وللإجابة على السؤال “اللغز”، يأخذنا الكاتب في رحلة عبر الماضي التونسي القريب، إذ يقول سرْ على طول شارع الحبيب بورقيبة، ذلك الشارع الذي كان حتى أسابيع عدة خلت لا يزال مطوَّقا بالعربات المصفَّحة وبالأسلاك الشائكة. وهناك عرِّج على مكتبة محليَّة واسأل عن ثورة “Z” الرائعة (كناية عن زين العابدين بن علي). بعدها، يستعرض روبرت فيسك معالم تلك الحقبة التي عاشها التونسيون في ظل حكم بن علي، وفيها صور لتباهي أقرباء الرئيس ولحياة البزخ والرفاهية التي كانوا يحيونها أمام أعين شعب عاش الفقر المدقع وقيل ذات يوم إن 96 من أفراده هم عناصر في الشرطة السرية التابعة للنظام. وعلى الطريق أيضا نستعرض صورا لبلطجية النظام وللرئيس الذي جعله تملُّق المحيطين به يشعر ويصدِّق أن كل الأشياء التي من حوله كانت تنطق بالتأييد والدعم اللا محدود له. ولا ينسى فيسك أن يستعرض لنا أيضا صور تلك الأعداد الغفيرة من الشبيبة التونسية التي راحت ذات يوم تغني وتشدو “ابتهاجا للتعبير عن تأييد ودعم جيل الشباب للمشروع الإصلاحي الذي يقوده الرئيس بن علي، وعن مدى التصاقهم بقضايا تونس وولائهم لها واستعدادهم للمساهمة بتنميتها وتطويرها”، على حد زعم افتتاحية إحدى الصحف المحلية في العهد البائد. ديكتاتورية وحرية ومن سراديب ديكتاتورية بن علي المظلمة، ينتقل روبرت فيسك في تقريره فجأة إلى أجواء “الحرية” التي جلبتها الثورة للتونسيين، ومنهم سلوى راشدي التي تحيِّي “شجاعة وصمود” كتاب بلادها الذين عملوا في ظل حكم “الديكتاتور”، مختصرة الحكاية بعبارة “الحمد لله على الحرية”. إلاَّ أن أحد الصحافيين التونسيين القدامى يخاطب صديقه فيسك الذي قاد السيارة التي أقلَّتهما إلى بعض ضواحي العاصمة تونس، قائلا: “لا تخبرني عن الكتَّاب الليبراليين يا روبرت! هل تعلم أن 92 في المئة من الكتب التي تُنشر في تونس الآن هي كتب إسلامية؟” ويضيف الصحفي التونسي العتيق: “خارج تونس العاصمة، كل ما تبيعه المكتبات هو الكرَّاسات وأوراق الدعاية الدينية والسياسية. أولا تعتقد بعد هذا أنّّنا يجب أن نكون قلقين؟” هنا ينبري فيسك ليواسي صديقه التونسي عبر إخباره عن الأوضاع في مصر، وكم يكفي أن تونس لا تخضع مثلا لحكم العسكر من أمثال المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، وأن تونس بعيدة عن قصص العنف التي تحفل بها مثلا البحرين وسوريا. وفي الختام، يخاطب روبرت فيسك بعدها صديقه قائلا له: “إنك رجل محظوظ”. إندبندانت/ بي بي سي العربي