عندما بدأت نسمات الحرية تهب وتفتح الأبواب أمام المقموعين والمهمشين والمنبوذين، أطلقت كعجائزنا المتفائلة زغاريد فرحة وأمل، ثم بدأت معالم دولة قانون ترتسم، وأخذت نساء ورجال المعارضة (وجلهم من أصدقائي) تستكشف مواقعها، وأعلنت مواعيد «انتخابات شفافة» لأول مرة في تاريخ دولتنا الحديثة، وكمواطنة حالمة وشغوفة انتابني الفرح والفخر وتملقني الأمل بأنني سأمارس انتخابات حرة في بلد ديمقراطي، كذلك حالة حيرة وتساؤل: من سأنتخب؟ كنت في حالة صداقة وحالة احترام لنضال مجموعة المعارضة، لكن كان لا بد أيضا أن أختار من لديه القدرة الكافية لتسيير بلد جريح منذ نصف قرن، ثم مرت خمسة شهور في حالة (تخميرة حرية) ولا أدري اذا كانت هذه الفترة قصيرة أو معقولة لوقوف المواقف السياسية على قدميها؟ لكنني ما زلت أحمل نفس السؤال: لمن سأصوت ومن سأنتخب؟ السؤال أصبح أصعب فقد فقدت دهشتي عذارتها، أصبحوا جميعا (كيف كيف) متشابهين في المنطق والثرثرة الفضفاضة فيما يخص البرامج الحزبية ،تبخر الانبهار بتبخر النضال التي به كنت معجبة ويا لخيبة الأمل. لكن الأدهى والأمر الجميع يحارب ويتهجم على الأشخاص التي عملت مع النظام وحد السيف فوق رقبتها، وأتحداهم جميعا أنه لو عرض عليهم ربع كرسي لما ترددوا، لقد قامت دولة لمدة 23 سنة، دولة كان فيها دكتاتورية وقمع وفساد وتلاعب، لكن دولة قامت فيها أيضا برامج وانجازات وأسس اقتصادية وبنية تحتية، لا يعقل ولمدة 23 سنة أن يجلس الرئيس وعائلته ومريدوه في ضفة وفي الضفة المقابلة الشعب برمته في انتظار رحيله أو موته، كان لا بد من التعبير طبعا، لكن من الذي عبر؟ في الأكثر من عشرين شخصا أو خمسين، أو مائة، الكل عمل مع الدولة وتقاضى راتبه منها، ودرس أولاده في مدارسها وتداوى في مستشفياتها، الدولة كانت حاضرة باسم النظام وتحت أوامره وتصرفه في حياة الجميع، لا يمكن اليوم التخلص من وضع طبيعي والتملص باسم ثورية لم يمارسها الا الفقير والجوعان والمقهور، أنا لا أدافع عن النظام فقد كنت والحمد لله دائما معارضة قصووية وتعرضت للتهميش والسجن والابعاد لكنني مقتنعة بمواقفي لذلك لا أتاجر بها. ومن كان يعمل تحت جناح الدولة فلا حرج عليه الا من جار على أخيه أو من تملق للعائلة طمعا وتبجحا، والأيام تضمد جروح الماضي وتحاسب الجاني، اليوم شأن آخر، من الصعب المغفرة لمعارضة الأمس التي تتهم (الدولة النظام) بالعمالة والخيانة وترفع فزّاعة التجمع في كل واردة وشاردة، وهي تتعامل لا مع النظام السابق، بل مع أذيال العائلة التي ما زالت مسيطرة على المصالح والمنابر الاعلامية، على أساس أن الماضي هو الماضي وأن المصلحة تقتضي التعامل، هل الماضي مقسوم على مكعبات كلعبة الأطفال، وما هي المصلحة التي تقتضي أن يتخلى انسان عن شرف ماضيه لبناء مستقبل تحتاج الأمة لنزاهة حاضره، ولماذا يحاسبون الآخر الذي أجبر على ما فعله ويقومون بنفس الخطإ لكن بارادتهم واختيارهم؟ لماذا المواقف المشتبه فيها، لماذا مثلا المطالبة بغلق صحف ك«الحرية» و«الرونوفو» ضاربين عرض الحائط أن هذه الصحف هي أول صحف تونسية مستقلة تندد بالاستعمار، متناسين أقدمية العاملين وحرفيتهم وأخلاقهم، وفي نفس الوقت يتعاملون مع الصحف الصفراء التي شتمتهم في الماضي ويهرولون نحو القنوات التي ما زالت تحت سيطرة العائلة التي تسببت في حرق تونس ،تباين في المواقف بين الماضي والحاضر، أين هو الخيط الرفيع بين الأخلاق واللاأخلاق، بين الصدق والنفاق؟ بين مصلحة الوطن والمصلحة الخاصة؟ هل الموقف النضالي قرار نهائي لا رجعة فيه؟ أم أن درجة الوعي غير ثابتة ومتفاوتة حسب التصميم على موقف أو الصمود، أو الهدنة عند استلام زمام الأمور والوصول الى سلطة ما أو منصب ما؟ هل هناك استراتيجية وطنية؟ هل يدرك المناضل أنه في مهمة نضالية مستمرة وأن عليه مقاومة الاغراءات؟ وأن الدفاع عن الموقف والمبادئ كالدفاع عن العرض لا توجد حلول وسطى؟ هل هناك مبرر للعدول عن المسلكية الأخلاقية ضمن المنهج «النضالي الوطني» هل هناك فرق نضالي وراء قضبان الأسر أو في الهواء الطلق ؟هل المقياس لتقييم النزاهة هو التعامل مع المواقف البديلة، ووجهات نظر تتماشى مع المصلحة الشخصية الآنية، ليكون الحزب أو الشخص أقوى توازنا في موقعه، مع الأسف على ما يظهر، المصلحة تؤثر على مصداقية المواقف السياسية الضبابية الفردية البعيدة عن محايدة الأحداث، النزاهة والحيادية خدعة، والمواقف تكشف المستور. ويبقى سؤالي مطروحا: وأنا المرأة القصووية التي لا تقبل المواقف الوسط، لمن سأصوت ؟ HYPERLINK «mailto:[email protected]» [email protected]