فوز السيد باراك اوباما بمنصب الرئيس في الولاياتالمتحدة يمكن اعتباره انقلابا اميركيا داخليا وربما نزوة شعبية أميركية تنشد التغيير على المستوى الداخلي بعد تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية هناك، وليس له تأثير ملموس على مجمل السياسة الخارجية الأميركية التي تعتمد على إطباق الهيمنة والسيطرة على العالم واقتصاده وقدراته. يخطئ من يظن بأن السيد اوباما سيقلب التاريخ ويغير السياسة الأميركية الخارجية، لأن تغيير هذه السياسة يعني تغيير مكانة أميركا كدولة مهيمنة ومسيطرة على العالم، واوباما ليس بذالك الإنسان الذي يجازف بموقع أميركا ومكانتها في العالم كما حصل للرئيس السوفييتي في مطلع التسعينات ميخائيل غورباتشوف والذي قاده التغيير إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي وإنهاء حلف (وارسو) كقوة ندية للولايات المتحدة وحلفائها. نحن العرب عاطفيون إلى حدود عدم رؤيتنا وقراءتنا الواقع الأميركي والعالمي وهذه المرة تقودنا عاطفتنا للمراهنة على تغيير قد يجيء به اوباما وكأنه يحمل عصا سحرية. ستون عاما مضت على نكبة شعبنا واحتلال اسرائيل لأراضينا ونحن ننتظر إلى أن تتغير سياسة البيت الأبيض. فكلما جاء رئيس أميركي جديد نطير فرحا ونصفق ونراهن عليه، حتى باتت قضيتنا قضية رهانات وانتظار على محطات الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. وما أن يتسلم الرئيس الجديد مهامه نصاب بالإحباط وخيبة الأمل. آن الآوان لان نصحو من غفوتنا ونستفيق من كبوتنا ونعرف ان التغيير الحقيقي نصنعه نحن وليست الإدارة الأميركية.. التغيير الحقيقي يتولد من إرادتنا وقوتنا وقدرتنا على الصمود وبالأساس يأتي من وحدتنا والإصرار على انتزاع حقوقنا. يذهب بعض السياسيين العرب وحتى المفكرين والمحللين إلى الإفراط في التفاؤل وكأن اوباما هو المسيح المنتظر، وهو الذي سينهي الاحتلال الاسرائيلي ويقيم الدولة الفلسطينية ويعيد القدس واللاجئين. وأنا أعجب كل العجب من هكذا محللين وكتاب الذين يبررون تحليلاتهم وتفاؤلهم بانتماء اوباما العرقي وبشرته السوداء واصوله الاسلامية! امتعاضي وعجبي له ما يبرره. فحتى لو كان اوباما ينتمي الى العرق الافريقي الأسود، فهل هذا يعني انه سيناصر الشعب الفلسطيني والقضايا العربية ويجبر اسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة يا عرب؟ قبل أن نفرط بالتفاؤل ونصفق للتغيير في شخوص الإدارة الأميركية ،علينا أن نأخذ الحقائق التالية: الحقيقة الاولى: الرئيس الاميركي وأي رئيس يعتبر قطعة في ماكنة الإدارة الأميركية التي يديرها مئات المستشارين والمعاونين، وهو ليس أكثر من واجهة لهذه الإدارة ومعبر عن رؤيتها واستراتيجيتها. هناك أجهزة عديدة ومتنوعة تتخذ القرارات الإستراتيجية والسياسية وليس كما هو الحال في العالم العربي حيث أن القرارات مخزونة في جيب الحكام. ويجب أن نذكر ان بعض معاوني الرئيس الأميركي هم من اليهود الصهاينة ممن يهمهم مصلحة إسرائيل أكثر مما تهمهم المصالح الاميركية نفسها والمراهنة على تغيير جذري قد يحدثه اوباما ليس لها مكان أو حيز. الحقيقة الثانية: ان أي مرشح رئاسي اميركي لا يمكنه كسب ثقة حزبه في الترشح اذا لم يلتزم بمسلمات سياسية واستراتيجية اميركية وفي مقدمتها الحفاظ على الأمن القومي الأميركي والذي يعني الحفاظ على مكانة اميركا العالمية ومكافحة "الإرهاب" أي انتهاج سياسة الحرب في التصدي لأية دولة تخرج عن طوع أميركا كما حصل في العراق وأفغانستان. فتحت بدعة مكافحة الإرهاب يتم احتلال الدول ونهب ثرواتها. الحقيقة الثالثة: ان أي رئيس اميركي تتضاءل فرص فوزه اذا هو لم يحظ بالتأييد الكامل للوبي الصهيوني الاميركي لذا لمسنا في خطاب اوباما التعاطف مع اسرائيل والحرص على أمنها وحقها في الدفاع عنه. في المقابل لم نسمع لاوباما خطابا يتناول فيه القضايا العربية إلا الخطاب الشامل عن السلام والاستقرار لكنه لم يحدد أسس السلام في الشرق الأوسط. الحقيقة الرابعة: اوباما تذاكى لكسب تأييد قوى رأس المال الأميركي فهو حرص على عدم المساس بهذه الطبقة المسيطرة على الاقتصاد والسياسة الاميركية. استطاع كسب تأييدها ودعمها المادي فحملة اوباما كانت الأكبر ميزانية من المرشحين الآخرين. وبالطبع فان اوباما سيدفع ثمن هذا الدعم بدعم معاكس لهذه الطبقة والحفاظ على مصالحها. الحقيقة الخامسة: لم يكن اوباما ليحظى بالتأييد لو لم يكسب تأييد البنتاغون (بيت الحرب) الاميركي إزاء السياسات الخارجية والعسكرية الاميركية وبالتحديد فيما يخص العراق وايران وتعاطي اميركا مع "محور الشر"! وفيما يخص فنزويلا وكوبا وبعض الدول في اميركا اللاتينية، وفيما يتعلق بروسيا والصين والعلاقات المتوترة بينهما. اوباما استطاع وبذكاء تجيير هذه العوامل لصالحه ويجتاز عقدة بشرته السوداء وانتمائه العرقي. فالشعب الاميركي ليس بذالك الشعب الذي يقبل برئيس اسود، لكن وكما يبدو فان الأزمات الاقتصادية الداخلية المتفاقمة ساقت الشعب الاميركي للقبول بالتغييرات التي وعد بها اوباما وجعلته أي الشعب يقفز عن عقدة العرق والأصول. أعتقد ان المستقبل سيكون عصيبا على المستوى الداخلي الاميركي وسيحاول الزعماء البيض العودة الى البيت الأبيض عبر نافذة التعصب العرقي واثارة النزعات العرقية بين البيض والسود. ولا اعتقد ان القادة البيض سيسلمون بحقيقة وصول رجل اسود الى البيت الأبيض. ما يهمنا نحن العرب المتفائلين هو ارتداد فوز اوباما على القضايا العربية وبالتحديد القضية الفلسطينية. ولا اعتقد بان السيد اوباما يحمل عصا سحرية، فهو سيبقى يراوح في دائرة "خارطة الطريق" التي اقترحها بوش قبله! وهو لن يقامر بعلاقته مع اللوبي الصهيوني لأجل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ومهما سيحصل من تغييرات جذرية أميركية داخلية فأن السياسة الخارجية ستبقى مرتكزة على مسلماتها. فلا تفرطوا في التفاؤل أيها العرب! فتجربتنا مع الإدارات الاميركية السابقة مريرة وقد تكون في عهد اوباما أمر... وآمل أن أكون مخطئا.