عاجل : راصد الزلازل الهولندي يحذر    في ظرف يوم : 15 حالة وفاة و438 مصابا في حوادث مرور    رئيس الجمهورية ووزيرة المالية يتباحثان ملف التمويلات الأجنبية للجمعيات    هيئة المحامين تدين الاعتداء على مهدي زقروبة وتقرر الإضراب مجددا    الرئيس سعيد يبحث مع وزير الداخلية الوضع الأمني العام في البلاد ويؤكد على فرض احترام القانون على الجميع    التمويلات الأجنبية المتدفقة على عدد من الجمعيات التونسية ناهزت 316ر2 مليار دينار ما بين 2011 و 2023    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    وزير الفلاحة: الترفيع في طاقة استيعاب سد بوهرتمة    الاقتصاد التونسي يسجل نموا ب2ر0 بالمائة خلال الثلاثي الأول من 2024    ارتفاع المؤشرات الخاصّة بالمشاريع المصرّح بها في الصناعة والخدمات    وزارة التربية تعلن قبولها ل100 اعتراض مقدّم من الأستاذة النواب    محمد عمرة شُهر ''الذبابة'' يصدم فرنسا    عرب يتعاملون بالعملات المشفرة.. و هذه الدولة في الصدارة    ماذا في اجتماع هيكل دخيل بأعضاء "السوسيوس" ؟    الترجي الرياضي التونسي في تحضيرات لمواجهة الأهلي    طولة فرنسا : نيس يفقد آماله في التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية بالخسارة أمام باريس سان جيرمان    عاجل : جماهيرالترجي تعطل حركة المرور    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    هام/ انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لإمتحان شهادة الباكالوريا    ضبط معدات لاسلكية لاستغلالها في امتحان الباكالوريا    ملثمون يحملون أسلحة بيضاء يعتدون على مقهى بهذه المنطقة..ما القصة..؟!    فظيع/ هلاك كهل الخمسين سنة في حادث مرور بالقيروان..    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    بوكثير يتابع مدى تقدم مشروع البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    أخبار الأولمبي الباجي .. بن يونس يحقق المطلوب وغموض حول الأشغال في الكميتي    ناجي الغندري يدفع المجلس البنكي والمالي نحو دعم الاقتصاد الوطني    حزب الله يستهدف فرقة الجولان بأكثر من 60 صاروخ كاتيوشا    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    كتاب «التخييل والتأويل» لشفيع بالزين..الكتابة على الكتابة اعتذار عن قبح العالم أيضا    جمهور النادي الافريقي .. البنزرتي رجل المرحلة.. لا نعترف بلجنة الحكماء ونطالب بتنظيف محيط الفريق    أخبار النادي البنزرتي...لماذا يعجز الفريق عن الفوز خارج قواعده؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    سيدي بوزيد: يوم جهوي للحجيج    طقس اليوم ...الحرارة في ارتفاع ؟    ديوان السياحة: نسعى لاستقطاب سيّاح ذوي قدرة إنفاقية عالية    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    أخبار المال والأعمال    ينشط في عديد المجالات منها السياحة .. وفد عن المجمع الكويتي «المعوشرجي» يزور تونس    قيس سعيد يشدد على اتخاذ الإجراءات القانونية ضدّ أي مسؤول يُعطّل سير المرافق العمومية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    محكمة العدل الدولية تنظر "وقف العمليات العسكرية في رفح"    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار: توقع انتعاش النمو في تونس إلى 1،9 بالمائة خلال السنة    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    صفاقس: ينهي حياة ابن أخيه بطعنات غائرة    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرتدون: تأريخ للشخصية الغربية (1 من3):

هذا كتاب مهم من ذلك النوع من الكتب التي يمكن تسميتها بذات الحدّين، ولا غرابة في ذلك، فالقلم كما السيف والكلمة كالمنشار، قال ذلك عرب وقد يقوله اليوم غربيون معاصرون، والحكمة ضالة المؤمن بحتمية الصح وفناء الخطأ، وقبل هذا وذاك كل شيء فان الا وجه الحقيقة.
وأكثر من أن يكون هذا الكتاب ذا حدين فهو كتاب حدود، موضوعه يخترق الحدود التقليدية بمعناها الجغرافي المعروف ويرسم لنا عوالم كبقع الزيت الهائم فوق الحدود.
فمن الناحية العملية البحتة كان هذا الكتاب فرصة جيدة لكاتبته المثقفة الغربية المعتدلة الأهواء والجدية التثقيف للتعرف علي زوايا خبيئة من شخصيتها كفرد وكمجتمع، وهو للقارئ الغربي تحسس لحبله السرّي الذي قد يكون قد نسيه كاملا أو نسي بعض أجزائه.
أما لنا فهو سياحة وعلم ومعرفة وتاريخ وجغرافيا وحسرة وتأمل وتعلم، تماما كما تقول الكاتبة عن نفسها نيابة عن قومها، فالآخر نعرفه بالتعرف أيضا علي أنفسنا وتظل لعبة المرايا هذه مهمة لكل من أراد مصارحة نفسه ومعرفة الخبيء من زواياها.
وتبقي ميزة الكتاب الأساسية انه يعالج قصة قوم احتار مجتمعهم الأصلي فيهم فلم يصل لا في الماضي ولا في الحاضر الي رأي نهائي حول انتمائهم، وهؤلاء هم من عرفوا في الغرب بالمرتدين، وفي التسمية هذه تهمة ليس مفروضا علي القارئ تبنيها، فهم مرتدون بالنسبة للكنيسة وقد يكونون مهديون، وهم شبيهون باليهود والموريسكوس الذين اعتنقوا المسيحية مع فارق وحيد ومهم جدا وهو أن المرتدين دخلوا الاسلام طواعية في أغلب الأحيان بينما اليهود والموريسكوس أجبروا علي اعتناق المسيحية ومع هذا عاملهم مجتمعهم الغربي بالشك الدائم والمستمر الذي أفضي في نهاية الأمر الي اجلائهم قسرا عن بلادهم في عملية تطهير عرقي ديني لم يمارسها الشرق أبدا حتي في أحلك أيامه.
وجدير بالذكر أن مملكة اسبانيا وعلي أعلي المستويات كانت قد اعترفت لليهود السفارد أو السفارديم بالظلم التاريخي الذي وقع بحقهم وقامت بسلسلة من المبادرات الرامية الي تعويضهم ماديا ومعنويا مما عانوه من محاكم التفتيش، أما الموريسكوس وأحفادهم وهم كثر فما زالوا بانتظار العدالة التاريخية، وموقف مملكة اسبانيا منهم مشابه لموقف الفاتيكان والبابا السابق الذي طلب العفو من الكنيسة الأرثوذكسية علي جرائم الصليبيين ضدهم ولم يعترف بجرائمهم ضد الشرق المسلم.
وهذا الكتاب في طبعته الثانية يأتي في وقت تصاعدت فيه النقاشات حول المسلم وهويته وقابليته للاندماج من عدمه في المجتمعات الغربية غير الاسلامية أصلا والتي مع الوقت أصبحت شئنا ام أبينا وشاء الأوروبيون أم أبوا وطنا لملايين المسلمين. ولا نعرف بالضبط حتي الآن ماذا يعني الغرب بالاندماج أو ما يشابهه من مصطلحات، ويبدو أن ترك الدين الاسلامي واعتناق الدين الغربي هو ما يطالب به الكثيرون، ولكن الذاكرة التاريخية تثبت أن تجربة مماثلة لم تحم أهل الجزيرة الايبيرية من الطرد بعد أجيال من التحول القسري عن دين الآباء، لذلك لم يعد أمام المسلمين الا أن يكونوا مواطنين صالحين ان استطاعوا والا فليدافعوا عن حق المواطنة الصالحة بمفهومها الانساني بانتظار نشوء غرب جديد.
وهو يأتي في وقت أصبحت فيه العلاقات الاسلامية الغربية أكثر توترا وصعوبة ما دفع بالكثيرين الي الاحساس بان هناك رجوعا الي الماضي،أي فترة المواجهة الكبري بين الحضارتين، خاصة وأن الحرب علي ما يسمي بالارهاب بدأت في السابع من تشرين الاول (أكتوبر) وهو نفس تاريخ حدوث معركة ليبانتو البحرية الشهيرة ضد البحرية العثمانية (سنة 1571) التي خسرت تلك الموقعة أمام (تحالف القوي الغربية المقدس) وخسرت معها سيادتها البحرية في المتوسط كما تقول الكاتبة ولم تقم لها قائمة بعدها الي يومنا هذا.
عين مع الحاضر واخري علي الماضي
وفي هذه الأجواء المشحونة بدا أن الرأي العام الغربي ووسائل الاعلام فيه اكتشفت وجود الملايين من المهاجرين المسلمين، وبدون شك فان هذا التواجد هو حقيقة جديدة في هذه المجتمعات وبدأ بالتكون مع الاستعمار، فالمهاجرون الأول جاؤوا من مستعمرات بريطانيا وفرنسا وازدادوا خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية وشاركوا كيد عاملة رخيصة في بناء اوروبا الحديثة وخلفوا أجيالا من المهاجرين.
ومع أن موقع المهاجرين ظل هامشيا في مجتمعاتهم الجديدة خصوصا في النواحي الثقافية والسياسية الا أن وجودهم أثار الاهتمام وجدد العداء ضد المسلمين،خصوصا وأن هذا الوجود جاء في لحظة كانت فيها الهوية الأوروبية تعاني من التشظي والحيرة كما يعتقد الكثير من المثقفين الغربيين ومن بينهم مؤلفة هذا الكتاب.
ويعترف الكثير من الأوروبيين من النخبة ومن العامة بازمة الهوية هذه،فهم لا يعرفون ان كانوا فعلا أتباعا للدين المسيحي أم لا،كما أنهم محتارون في تقييم أهمية تراثهم الثقافي، وبالمحصلة هم لا يعرفون ان كانت هناك هوية تستحق الدفاع عنها ونشرها أم أن من الأفضل التخلي عن الهوية ان وجدت والانفتاح علي الآتي من الخارج.
في هذا الاطار تأتي حاليا مسألة دخول الكثير من الغربيين في الدين الاسلامي، ففي ايطاليا مثلا تتحدث المصادر الايطالية عما بين 300 الي400 حالة سنويا يتم معظمها عن ايمان ويلعب فيها التعرف علي أحد المهاجرين دورا ايجابيا جنبا الي جنب مع التعرف علي القرآن. ويجمع المختصون علي أن الجمهور الغربي يعتبر الاسلام دين يسر، يمنح معتنقيه السكينة والثقة عن طريق العبادات السهلة والمفتوحة للجميع مما ينمي الشعور بالانتماء الي كل أكبر هو الأمة.
والغريب ان الكاتبة لم تتطرق الي الأسباب الروحية كمحرك لظاهرة (المرتدين) جنبا الي جنب مع الأسباب الأخري خصوصا المادية منها. أما في العصر الحديث فان الاحتجاج علي الفردية والمعاناة من الوحدة والعلمانية والتوق الي الأدوار التقليدية للعائلة والمرأة اضافة الي عدم وجود طبقة الكهنة في الاسلام كلها أسباب تفسر اندفاع الكثير من الغربيين نحو الدين الاسلامي باعتراف الكاتبة نفسها.
في مقدمة الكتاب تعرض الكاتبة نماذج لتعاون أفراد غربيين مع قوي ودول اسلامية في مواجهات ومواقف كان طرفها الآخر دولة أو دولا غربية أوروبية (مسيحية). وتسلط الضوء علي محمد الفاتح السلطان التركي الذي فتح القسطنطينية في عام 1453 واضعا بذلك نهاية لحلم اقامة امبراطورية غربية (مسيحية) متواصلة ووارثة للامبراطورية الرومانية وكيف أنه كان لديه عدد من المستشارين الغربيين وبالأخص عدد من الايطاليين منهم (جاكوبو دا غائيتا) الذي كان قد عمل كطبيب خاص لوالد محمد الفاتح وأيضا (شيرياكو دي بيتسيكولّي) وخصوصا (شيرياكو دي أنكونا) الذي ساعد في بناء قلعة البوسفور وبعضا من معدّات الحصار. كما تذكر بالخصوص المدعو (اُربان) القادم من ترانسيلفانيا والمتخصص بصهر الحديد والذي أشرف علي تصنيع مدفع فاق في مداه سابقيه ليصبح بامكان جيش السلطان قصف أسوار القسطنطينية من الجهة الأخري للمضيق. وتستنتج الكاتبة سريعا أن المساعدة (المسيحية) كانت أساسية في انتصارات السلطان كما أنها تشير الي أن هذه المساعدة لم تقتصر علي ما قدّمه أفراد بعينهم أي غربيين (مرتدّين) عن دينهم بل انّ المساعدة الحقيقية والهامّة للسلطان جاءت كذلك من طرف قوة أوروبية حقيقية هم الجنويون (نسبة الي مدينة جنوة) الذين وضعوا تحت تصرفه المواد اللازمة لمد جسر من (غلاتا) الي (قرن الذهب) وقبضوا ثمن ذلك غاليا.
واذا كان المرتدّون أفراداً لكل منهم قصته وأسبابه التي دفعته لترك دينه والتعاون مع بلده وأمته الجديدتين كما كان للجنويين حسابات ومصالح وأخطاء سوّغت لهم صيغا من التعاون مع قوة مسلمة صاعدة فانّ الكاتبة تذكر أمثلة لتعاون تم بدون قصد من فاعليه ودون مقابل كما فعل أحد المبعوثين الهنغار الذي وأثناء تواجده في مهمة دبلوماسية لاحظ سوء استعمال الضابط التركي لمدفعه الضخم وسوء تصويبه فابتسم له وعلّمه كيفية التصويب للحصول علي نتيجة أفضل. وتضيف الكاتبة في مقدمة كتابها قطعة أخري للوحة التي تريد رسمها عندما تقفز بنا مئة سنة وأكثر الي ما بعد سقوط القسطنطينية وتصل بنا الي موقعة (ليبانتو) البحرية الحاسمة (1571) والتي أنهي بها الغرب كما تقول السيطرة البحرية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط لنكتشف معها أن القطعة البحرية التركية الوحيدة التي استطاعت الاستمرار في المقاومة بل وأجبرت السفن الجنوية علي الفرار كانت تلك التي كان يقودها (ألُغ علي) أو (أكيالي) وكان ايطاليا من (كالابريا). والذي قد لا يعلمه القارئ ولا تذكره الكاتبة هو أن العرب المسلمين وبعد استيلائهم علي صقلية هاجموا (كالابريا) وتوغلوا فيها وأقاموا فيها امارة من سنة 784 الي سنة 884، وكانت (أمانتيا) عاصمتها.
هكذا اذن في السراء كما في الضراء يلعب الغربيون وشعوب المتوسط منهم بشكل خاص أفراداً كانوا أم دُولاً من داخل صفوفنا أم من خارجها بصفة أصدقاء وحلفاء أم بصفة أعداء يلعبون دورا في صنع انتصاراتنا. وبما أن الكاتبة تقدم هذه الأمثلةللدلالة ليس فقط علي ما كانت عليه العلاقة بين الطرفين في الماضي وحسب بل تسحب ذلك علي الحاضر يمكننا اكمال المقولة بأن هزائمنا أيضا كانت في جزء منها بفضل الغرب، وليس أدل علي ذلك الاّ ما تذكره الكاتبة نفسها من كيف أن في الحرب الأولي ضد العراق تقابلت جيوش غربية (وغير غربية) مع جيش (مسلم) هو الجيش العراقي كما تقول مجهّز ويستعين بأسلحة وتقنيات وخبراء غربيين هم مواطنون من نفس الدول التي شنّت الحرب.
اذاً هل هناك تناقض في تصرفات الغرب والغربيين؟ ولماذا؟ الكاتبة تعبّر عن احساس جمعي غربي مفاده أن المجتمع الأوروبي (يلعب علي الحبلين) أو كأنّه الضاحك والمضحوك عليه في نفس الكوميديا. أما فيما يخص المجتمع الاسلامي فعند الكاتبة نفس الشعور الجمعي الأوروبي والذي يتلخص بأنّه ومع أنّ هذا المجتمع أقل حظا من أوروبا من الناحية التقنية الا أنه قادر علي أن يكون (شرساً) حينا أو أن يقتني ثقافة الآخر أحيانا. ولكن ما معني كل هذا وما الذي يمكن استنتاجه من كل هذه المقدمات؟ الاستنتاج الأول والأهم والذي يبدو أنه يشكل أحد قناعات الكاتبة الفكرية والتاريخية هو التداخل العميق منذ قرون بين المجتمعين والثقافتين الغربية والاسلامية، أي أنهما وبرغم اختلافهما وديمومة المواجهة الموضوعية القائمة بينهما الا أنهما أثّرا كل في الآخر، وهما متأثران ببعضهما، وهذا الموقف بحد ذاته وفي هذه الأوقات العصيبة يعد عقلانيا.
والجديد الذي تأتي به الكاتبة والذي هو موضوع هذا الكتاب هو شبح (المرتد) الأوروبي كشخصية مركزية تخرج من شبكة العلاقات المتداخلة التي قامت وما تزال بين هذين العالمين، هذا الغربي (المسيحي) الذي ينتقل الي الاسلام حاملا معه متاعه التقني والمعرفي متخليا عن عالمه ومصطفا مع العدو معتنقا لأهدافه وقوانين حياته وأكثر من هذا معتنقا لدينه خصوصا في الماضي كما تقول. وهكذا ولأن شخصية (المرتد) هي محور هذا الكتاب فان الأسئلة الكثيرة اللاحقة حوله ستكون المدخل للغوص في تاريخ العلاقة بين العالمين.
ولا تسأل الكاتبة عن سبب تحوّل بعض الأفراد الأوروبيين الي الاسلام وحسب بل تسأل عن سبب وقوع هذه الظاهرة في أغلب الحالات من طرف الأوروبيين وباتجاه الاسلام وليس العكس ومتي بدأت وكيف تعامل معها الغرب وكيف واجهها؟ وهل ازدواج وتفتت شخصية (المرتد) تشكلان ظاهرة سلبية؟ هذا الكتاب (تقول الكاتبة) يريد أن يقدم بعض الأجوبة الأولية. كيف؟ عن طريق التحليل الجمعي لكثير من المصادر المهمة التي تسمح للباحث بالاطلاع علي تجارب حياتية مفعمة بالحيوية والامتراج الثقافي والديني. أما المصادر نفسها فهي كما تصرح الكاتبة محاضر التحقيقات التي أجراها قضاة (محاكم التفتيش) التي كانت تقام للمرتدين الراغبين أو المجبرين علي الرجوع الي حظيرة مجتمعهم وديانتهم الأولي.
دراسة الوقائع وتجارب المرتدين تُظهرللكاتبة ضعف ولين ومطواعية الشخصية الغربية (المسيحية) وأن هذه الشخصية معقدة وفي الوقت نفسه قابلة أكثر من غيرها للتماهي في الثقافات المختلفة وهي الأكثر قابلية للخداع والتخفي والتنكر. الكاتبة (وهي مدرسة للتاريخ المعاصر في جامعة روما) تنهج أسلوبا موضوعيا ويتسم عرضها بجرعات ظاهرة من التوازن والجدية الفكرية اضافة الي اتصالها واهتمامها بالقضايا المعاصرة وخاصة ما أثاره النزاع السياسي بين الشرق والغرب مؤخرا من مواضيع فكرية تتعلق بالتاريخ والثقافة والدين بين الدارسين والمثقفين الأوروبيين. ولكن الدراسة هذه في الأساس بحث من طرف الكاتبة في تاريخ وعوامل وظروف نشوء ملامح لشخصية غربية جديدة تحمل (جراثيم) الحدث الثقافي والفكري الأهم من بين تلك التي عاشتها أوروبا منفردة ألا وهو فصل الدين عن الدولة أو علمانية المجتمع والحكم. لهذا فالموضوع ليس دراسة للآخر بقدر ما هو طرق لمادة جديدة لم تدرس من قبل علي طريق الجدل القديم الحديث، كما هو محاولة لفهم الذات واكمال لرسم الصورة الذاتية ورد في الوقت نفسه علي مقولات وأفكار متطرفة حينا لأنها لا تحوي كل الجزئيات وغير موضوعية لأنها تحابي السياسة في كثير من الأحيان.
فتجربة (المرتدين) في رأي الكاتبة تُظهر كيف أن أناسا ينتمون في مجتمعاتهم الأصلية الي مستويات ثقافية واجتماعية منخفضة خضعوا لتأثير الاتجاهين الداخليين الرئيسيين في الثقافة الغربية (المسيحية) وهما: الاتجاه الي الغاء مفهوم التدنيس المادي الذي يلقي بالمسؤولية علي نية الفرد المذنب وكذلك الانفصام المتصاعد للهوية بين خارج تتناقص أهميته وداخل ينظر اليه باعتباره محلا للحقيقة. هذه الهوية الأوروبية (المشطورة بين القلب محل النية الحقيقية والجسد الذي يمكن تنكيره تبعا للمصالح الاجتماعية) جنحت الي الداخل حيث حكم الذات الفردي لكل من استطاع في مرة او أخري اتخاذ قرار الاذعان للقوانين السماوية وكيفية تطبيق ذلك.بهذا المعني تري الكاتبة أن تجربة (المرتدين) تبدو مدخلا فريدا وثمينا للاطلاع علي تباشير تكوين الهوية المسيحية الغربية الحديثة. وفي رأي الكاتبة أن هذه الهوية الجديدة تشكلت علي الهوامش بين المرئي والمخفي، بين دين الأصل ودين العدو الأكبر كما تقول أي الاسلام. وتختم الكاتبة المقدمة بدعوة تكاد ان تكون شبه صريحة لقرائها لوضع انفسهم هم ايضا مكان (المرتدين) للتمكن من تذوق الأساسي والمهم في دينهم والتعرف علي أهم مميزات هويتهم.
الحدود أو تحسس الآخر
(نكاية بكم سأعمل من نفسي تركيا)
مثل متوسطي
تبدأ الكاتبةالفصل الأول بمجموعة من الحقائق اولها: ان منطقة البحر المتوسط في العصر الحديث كانت مقسمة الي معسكرين متقابلين اسلامي ومسيحي تقاتلا لعقود خاصة في القرن السادس عشر مستخدمين الحروب التقليدية وغيرها من وسائل النهب والسلب.ُ ثانيا: أن التاريخ السياسي اهتم بتطور العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية للطرفين ونسي العلاقات غير الرسمية وأواصر الصداقة التي جمعت لعصور بين شعوب المتوسط الساحلية وخصوصا ظاهرة (المرتدين) أي الغربيين المسيحيين الذين اعتنقوا الاسلام طواعية والذين بقي موضوعهم طي النسيان. ثالثا: هذه الدراسات تبين أن أعدادا كبيرة من الأوروبيين عاشوا حياتهم علي الحدود بين الثقافتين ضاربين بذلك معادلة الافتراق الجذري الطهوري الديني و فاتحين بذلك الأفق لما تسميه الكاتبة (طريقا ثالثا) بديلا لثنائية التناحر. رابعا: أن ظاهرة (المرتدين) شملت أعدادا كبيرة من البشر تقدر بثلاثمئة ألف انسان أوروبي تركوا ديانتهم الأصلية واعتنقوا الاسلام طواعية في معظم الحالات في الفترة ما بين 1500 و1600 للميلاد وعدة آلاف أخري منهم في القرن الذي تلاه. كما تذكر الكاتبة أن أغلب الداخلين في الاسلام كانوا عبيدا رأووا في تغيير دينهم وسيلة لتحسين وضعهم والحصول علي الحرية وأنهم لم يخضعوا في أغلب الأحيان الي أي ضغوط وأن أكثر ما كان يطلب منهم في بعض الحالات الدخول في الاسلام. ولكن هذه الظاهرة لم تقتصر علي العبيد كما تقول الكاتبة بل دخل في الاسلام كثير من الرجال والنساء الأوروبيين من أهالي السواحل وكان هدفهم من ذلك تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وقد وصل كثير منهم الي هدفهم هذا كما تذكر ذلك المصادر الأوروبية التي تتفق في الاشارة الي اعدادهم الكبيرة والثروات الطائلة التي جمعوها. ومع أنه لا توجد معلومات دقيقة عن الفترات التي حصلت فيها هذه الهجرات كما تقول الكاتبة الا أنها تعتقد أنها تصادفت مع أزمات المجتمع الأوروبي من انحسار اقتصادي واضطهاد ديني وسياسي. ففي البلاد التي احتلها الأتراك كانت فرص الغني كثيرة وكانت هذه البلاد بحاجة للايدي العاملة الماهرة وللاطباء والسلاح وعن طريق (المرتدين) انتشرت المعارف والتكنولوجيا الغربية فيها. وعندما تتكلم الكاتبة عما تسميه الدول البربرية وهذه تسمية غربية تدعي أن ما كانت تتمتع به هذه الدول من تقدم وغني طفيف كان بفضل دور الأسري والمخطوفين و(المرتدين). فالمصادر الأوروبية تذكر في هذا المجال كيف أنه في عام 1580 كان في الجزائر ما يقارب من ستة آلاف (مرتد) بعضهم مع ذريته، اما في سنة 1630 فقد ارتفع الرقم الي ثمانية آلاف منهم 1800 امرأة. وحسب نفس المصدر كان هناك في نفس الفترة ثلاثة أو أربعة آلاف (مرتد) في تونس مع ستة الي سبعة آلاف امرأة. ومن بين ثلاثة وأربعين قائد سفينة في الجزائر في عام 1588 كان 19 منهم (مرتدين) واثنان منهم أولادا لمرتدين. وحسب بعض المصادر الغربية فان كثيرا من المرتدين كانوا يقومون بالخدمة في صفوف الانكشارية وحروب القرصنة البحرية مستخدمين في أغلب الحالات معارفهم الطوبوغرافية والاجتماعية للحصول علي منافع مالية وتحسين مكانتهم الاجتماعية في بلادهم الجديدة. وتبدو الحواضر الاسلامية آنذاك للمرتدين كأميركا العصر الحديث للمهاجرين من حيث الفرص، فها هو راعي غنم من جزيرة سردينيا يصبح حاكما للجزائر وعامل رخام من مدينة (لافانيا) حاكما لتونس وصاحب مركب من (كالابريا) أميرالا للبحرية التركية. كما عمل كثير من (المرتدين) كأمناء لأسرار الكثير من الأغنياء المسلمين وكمترجمين في الممثليات الأوروبية وفي الجيش والادارة المحلية والموانئ والجمارك وحكّاما للمدن وأعضاء في مجالس السلطان. ولأن (ويسترن يونيون) لم تكن موجودة بعد ولم تكن البنوك تقوم بالتحويلات المالية كان (المرتدون) الغربيون يستغلون دورهم في صفقات الافراج عن الأسري والرهائن الغربيين لايصال بعض المال لذويهم في أوروبا كما تقول الكاتبة. وقد شكي (فرسان مالطة) في رسالة الي بابا الفاتيكان نهاية القرن السادس عشر من السهولة التي كان يتحرك بها المرتدون من المسيحية الي الاسلام وكيف أن هؤلاء كانوا عادة أشد عداوة للمسيحيين من الأتراك أنفسهم. أما النساء الأوروبيات الأسيرات أو المستعبدات فكان الطلب عليهن كبيرا للون بشرتهن كما تقول الكاتبة، وكن الأكثر اقبالا علي ترك المسيحية والاستمرار في الاقامة في الحواضر الاسلامية مدفوعات الي ذلك بفعل الأواصر العائلية الجديدة وبسبب المكاسب المادية والاجتماعية التي كن يحصلن عليها خاصة اذا تزوجن من مسلمين. وبسبب نقص البحوث في أرشيف اسطنبول كما تقول الكاتبة يبقي صعبا معرفة الوزن الاجتماعي الحقيقي الذي تمتع به المرتدون في الأراضي العثمانية وعليه لا يبقي أمام الباحثين الغربيين كالكاتبة نفسها الا الاعتماد علي أرشيف محاكم التفتيش حيث توجد محاضر محاكم (الصلح) التي كان يخضع لها (المرتدون) العائدون طوعا أو مكرهين الي بلادهم المسيحية. وفي هذا المجال تعتبر الدراسات التي قام بها الاسبان (بنصار بن نصار) الأكثر ضخامة حيث تمت دراسة مستندات متعلقة بما يقرب من 1550(مرتد) قامت محاكم التفتيش الاسبانية بتسوية وضعهم في الفترة ما بين 1550 الي 1700 للميلاد. من هذه الدراسات يتبين أن الأغلبية منهم كانت اسبانية حيث بلغ عددهم 459 يتبعهم الايطاليون ب402 حالة وعلي هذا تكون غالبيتهم من بلدين قريبين للعالم الاسلامي وفي حالة حرب معه. وفي كثير من الحالات كانوا رجال بحر أسروا في معارك أو غارات وتركوا دينهم في سن الرشد.
وهذه الدراسة لا تشمل الأطفال وصغار السن الأوروبيين الذين تحولوا الي الاسلام بفعل (الديفشيرمة: أي اجبار مواطني الامبراطورية العثمانية من غير المسلمين علي تسليم عدد معين من الأطفال سنويا للسراي السلطاني) باعتبار أن تحولهم هذا كان اجباريا كما تقول الكاتبة. واذا كان من المفهوم أن يعتنق الدين الاسلامي كل من وقع في الأسر وأصبح عبدا لما لذلك من حسنات ومنافع فهذا لا ينفي أبدا دخول أعداد غفيرة من الرجال والنساء الأوروبيين الأحرار في الاسلام، وكان معظمهم من ساكني المناطق الساحلية وبالتالي كانوا معتادين علي نوع أو آخر من العلاقة مع من تسميهم الكاتبة (البربر) مدفوعين الي ذلك لأسباب اقتصادية أو هربا من ملاحقة قضائية أو دينية أو بسبب ضغط أو اهانة أو حبا للجديد والغريب كما تظن الكاتبة. وقد تركز وجودهم في اسطنبول وتونس والجزائر وقاموا بأدوار وساطة مهمة بين البعثات والتجار الغربيين والمجتمع العثماني. وقد سمحت الدراسات عن هذه المناطق بتحديد الأدوار التاريخية التي وقعت فيها هذه الظاهرة كما سمحت بالتعرف علي خصائصها العرقية. فمثلا وصلت ظاهرة المرتدين الي أوجها في النصف الثاني من القرن السادس عشر وكانت أغلبية سكان مدينة الجزائر منهم كما تقول الكاتبة، وتمتعوا بنفس حقوق المواطنة العثمانية السياسية والاجتماعية.
خير الدين
فمثلا وبعد موت خير الدين (باربا روسّا بو اللّحية الحمرا) مؤسس ولاية الجزائر عام 1518 استلم (المرتدون) منصب الوالي حتي نهاية القرن 16 وكان منهم (حسن آغا) وأصله من جزيرة سردينيا واستلم ولاية الجزائر من عام 1535 الي عام 1543 تبعه (حسن كورسو من كورسيكا؟) وخلف هذا من عام 1568 الي عام 1571 (ولدي علي) وأصله من كلابريا في جنوب ايطاليا وختم حياته كقائد أعلي للبحرية العثمانية، واستلم الولاية نهاية القرن المدعو (حسن فينيسيانو نسبة الي مدينة فينيسيا البندقية الايطالية)، وامتد وجودهم الي مناصب ووظائف هامة أخري،فكانوا قوادا لسفن القرصنة وحكاما لمدن ومناطق، وباختصار كان (المرتدون) أهم فئة في الجزائر آنذاك،وتبين المصادر الأوروبية عن تلك الفترة سيطرة ذوي الأصول الايطالية علي غيرهم من (المرتدين) ،فمن بين 22 قائد سفينة كان منهم 6 من جنوة وواحد من كلابريا وواحد من صقلية وواحد من نابولي واثنان من البندقية، وبالطبع لم يقتصر الأمر علي ذوي الأصول الايطالية اذ كان من بينهم من هو من كورسيكا (1) وألبانيا (2) واليونان (3) وهنغاريا (1) واسبانيا (2) وفرنسا(1) وكان من بين هؤلاء (المرتدين) يهودي جزائري كما تقول المصادر. في القرن التالي لوحظ انخفاض في أعداد (المرتدين) الأب دان يحصي أكثر من 9 آلاف منهم وتركز وجودهم في القطاع البحري الذي كان وسيلة مهمة لجمع الثروات وغابوا عن المراكز الرسمية باستثناء (أسطا مراتو أسطا مراد) الذي أصبح (باي) لتونس عام 1637 بفضل ألاعيب (المرتد مامي فرّاريسة، نسبة الي مدينة فيرّارا في شمال ايطاليا) الذي أعدم في الحال، وقد استطاع (أسطا مراد) نقل الحكم لولده محمد بادئا بذلك حكم البايات المراديون في تونس والذي استمر حتي عام 1702 كما تذكر الكاتبة.
أما انخفاض أعداد (المرتدين) في القرن السابع عشر وما تلاه فتعزوه الكاتبة الي أسباب عديدة في مقدمتها الاقتصادية نتيجة لانخفاض المواصلات في البحر المتوسط وما نتج عنه من انخفاض لأعداد الأسري والعبيد، والي هذا تضيف الكاتبة الجهد الذي كانت تقوم به التنظيمات الدينية المسيحية في شمال افريقيا والتي كانت ناشطة أيضا في المفاوضات التي كانت تهدف الي الافراج عن الأسري والرهائن، وتؤكد الكاتبة دور هكذا تنظيمات في تخفيض اعداد الداخلين للاسلام خاصة بين أولئك الذين كانوا مستعدين لهكذا خطوة بسبب فقدهم للأمل في دفع الفدية، واضافة الي ما سبق من أسباب تذكر الكاتبة سببا مهما آخر وهو التحول الجديد في ادارة شمال افريقيا من طرف الحكومة السلطانية مباشرة عن طريق تعيين باشوات، ولكن بالرغم من كل هذه التحولات تؤكد الكاتبة استمرار (المرتدين) في لعب دور مهم جدا ولو بطريقة غير مباشرة وذلك بفضل الثروات الطائلة التي جمعوها وليس أدل علي ذلك من مثل (علي بيتشينينو) ذو الأصل الفنيسي والذي كان يعتبر سيّد الجزائر في الفترة الممتدة من 1638 الي 1645. في القرن الثامن عشر انحسر دور (المرتدين) بانحسار القرصنة وتحولوا الي وظائف هامشية، ولم يخل هذا القرن من بعض الحركات المثيرة مثل تلك التي قام بها الأرستقراطي الفرنسي (المرتد) الشهير كونت (بنيفال) الذي وصل الي اسطنبول حيث عيّن قائدا للجيش بعد أن حارب لسنوات عديدة الي جانب (أوجينيو سافويا) سليل العائلة المالكة الايطالية. وبينما لم يضف (المرتدون) القادمون من دول المتوسط شيئا يذكر الي تقنيات البحر المحلية في دول المهجر الشمال افريقية واقتصر دورهم في حروب القرصنة علي وضع معلوماتهم عن الشواطئ والمناطق وعادات أهل السواحل الأوروبيين تحت تصرف (البربر) كما تقول الكاتبة، فانه ومع بداية القرن الثامن عشر يبدأ حضور (المرتدين) من أصول شمال أوروبية خصوصا الفيامينغ والانكليز وهؤلاء سيساهمون في تحقيق تحسينات مهمة علي تقنيات الابحار الاسلامية ومنها ما يذكره (الأب دان) عن قرصان البحر الفيامينغي (سيمون دانسا) الذي وحسب نفس المصدر كان قد أدخل الي الجزائر بين عامي 1606 و1609 استخدام زوارق شراعية قادرة علي الابحار في المحيط وفي فصل الشتاء أيضا بديلا عن القادس أي السفينة الشراعية التي كانت مستخدمة آنذاك.وقام الانكليزي (وارد) بدور مماثل في تونس، وكان من نتيجة ذلك اتساع رقعة القرصنة لتصل الي خطوط النقل التجاري للأمريكيتين في المحيط الأطلسي مما زاد من مغانم القراصنة، وقد انسحب كثير من القراصنة الأوروبيين الي مناطق جزر الأنتيل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ليحل محلهم قراصنة أتراك كما تذكر الكاتبة. وقد شكّل (المرتدين) في بعض الحالات جماعات ضغط سياسية كما حصل في طرابلس حيث استولوا علي الحكم من غريمهم التركي ولكنهم في العادة كانوا منقسمين الي جماعات حسب انتمائهم العرقي وكانت كل جماعة بحاجة الي زيادة عددها كما تقول الكاتبة مما كان يدفعها الي اقناع أو اجبار مواطنيهم علي ترك دينهم والدخول في الاسلام وتستنتج الكاتبة من هذا أن التبشير بالاسلام كان من أحد نشاطاتهم ولم يقم به الأتراك وأن أسبابه كانت سياسية أكثر منها دينية.
الاتجاه المعاكس
واذا كان الأوروبيون قد جذبهم الاسلام وانضموا الي صفوفه تتساءل الكاتبة ان كانت قد وقعت نفس الظاهرة باتجاه عكسي والجواب كما تقول الكاتبة سلبي بشكل قاطع اذا ما نظرنا الي خارج الدولة العثمانية، فمع أنه كان هناك أسري ورهائن مسلمون استعبدوا في مدن المتوسط الأوروبية الا أنه لم تكن تمارس عليهم أي ضغوط لكي يغيروا دينهم كما تقول لأن ذلك كان سيفتح موضوع استعباد المسيحي لمثله وفي هذا حرج كبير وكان سيؤدي الي تحريرهم وهذا ما لم يرده سادتهم كما تقول اما السبب الأكثر اقناعا فهو ابقاؤهم علي حالهم لاستبدالهم برهائن غربيين، وهكذا بقيت حالات التحول الي المسيحية بين الأسري المسلمين حالات معزولة واستثنائية دلت عليها الاحتفالات المثيرة التي كانت تصاحبها كما حدث في حالة عبدين من عبيد الكونت (سيلفيو دي بورشيا و بروغيرا) مباشرة بعد معركة (ليبانتو) البحرية،
وبقي (مجمع الداخلين الجدد) فارغا في روما بعد ان أسسه (باولو الثالث) عام 1543 ليستضيف المتحولين من اليهودية والاسلام ولقلة حظه في هذا المجال توسعت مهامه لاستقبال أبناء الطوائف المسيحية (المنشقة). أما داخل الدولة العثمانية نفسها تستطرد الكاتبة فمع أن التحول الي المسيحيةكانت عقوبته القتل الا أن الرحالة الاوروبيين كثيرا ما تحدثوا عن متحولين سريين للمسيحية أو متعاطفين معها، ومع أن المصادر الاسلامية تتحدث عن محاكمات لمتعاطفين محتملين تقول الكاتبة الا أنها تعتقد أنها كانت محاكمات (سياسية) ووسيلة لتشويه سمعة المتهمين، ومع هذا تورد الكاتبة قصة الفتاة الحلبية (قمر) التي تحولت الي المسيحية علي يد (الآباء الكرمليين الحفاة) في عام 1623 والتي ينتهي بها المطاف الي الرجوع الي دينها ولو ظاهريا مما يدفع الكاتبة الي اعادة التأكيد علي أن ظاهرة الارتداد وقعت باتجاه واحد، وأن الشعوب العثمانية كان عندها ميل الي (التوفيق بين المعتقدات سينكريتيزم) كما كانت لديها قدرة علي استقبال وصهر العناصر العقائديةالمختلفة في بوتقة جديدة ينتج عنه تلاحظ الكاتبة احترام واعجاب بشخصيات ورموز غير محسومة النسب، اذ تري في شخصية (ساري سالتيك) الملحميةالتركية شبها كبيرا مع (سان جورجيو) وكذا الاعجاب ب(ليله مارين) المذكورة في (دون كيشوت) مشابها للاعجاب بالسيدة مريم (ع)، وتلاحظ الكاتبة كيف كان اعضاء الطريقة البكتاشية يظهرون علي أتباعهم علي شكل المسيح (ع)، كل هذا يدفع الكاتبة الي الدعوة الي اعادة النظر في مفهوم الحدود الدينية المغلقة والخاصة كمتحول من متحولات الشخصية الجمعية.
وتروي الكاتبة استغراب الرحالة الغربيين عندما اكتشفوا الاستخدام الديني المشترك لبعض الكنائس من قبل المسلمين والمسيحيين في بعض أنحاء السلطنة العثمانية مثلما كان حاصلا في كنيسة (سان جورج) في اللد و(سان خوان) في سبسطية وكلاهما في فلسطين، و(سانتا كاترينا) في سيناء و(نوسترا سينيورا ديل بون كونسيليو) في سكوتاري ألبانيا، وهذا لا يزيد وجهة نظر الكاتبة الا قوة، فعندها يختلف الغربيون عن المسلمين، فالأوائل ينزعون وبسهولة الي الارتداد أما المسلمون فهم وان قبلوا بعض الاستعارات العبادية المسيحية الا أنهم كان يصعب عليهم ترك دينهم.
2006/09/23


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.