تونس الصباح: من المجالات الحيوية التي يجري التعامل بها منذ القدم، ولا تخلو مدينة أو قرية من مظاهرها وتعاطيها، ولا تزال تعتمدها وتحتاجها نسبة هامة من الشرائح الاجتماعية، سواء ممن لا يملكون محلات وهم في حاجة ماسة اليها، أو من أصحاب العقارات الذين يمثل لهم هذا البعد موارد رزق. وبناء على ترسخ هذه الظاهرة في المجتمع والحاجة الدائمة لها وتواصل تسويغ المحلات السكنية او التجارية. فقد ضبط المشرع هذا النشاط وتعاطيه، وحدد قوانين للغرض. لكن ظاهرة الكراء تبقى غير محددة بهذه القوانين على اعتبار أنها تخضع في جزء هام منها للعرض والطلب، ويسيرها نشاط خفي، يتعاطاه هامشيون أكثر مما تتولاه أطراف رسمية . فهل يخضع نشاط التسوغ والتسويغ للعقود المتداولة وللشروط التي تجعلها نافذة وضامنة لحق الطرفين؟ وهل تجري المعاملات طبقا لهذه الجوانب القانونية التي تنص عليها عقود الكراء؟ وهل أن نسخ هذه العقود في حد ذاتها مازالت صالحة وتتلاءم مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية الحاصلة؟ نسخ العقود بنودها اصبحت فضفاضة الجانب الايجابي الذي تخضع له عملية التسويغ بكل اوجهها في تونس، هو خضوعها لعقود تضبط حقوق الطرفين المتعاقدين وارتباطها أيضا بقوانين واضحة شملتها المجلة التجارية وقوانين البلاد، وحددها المشرع في فصول واضحة عند التقاضي في هذا المجال. ولعل الهام في كل هذا هو إمكانية الحصول على نسخة العقد بأسهل السبل وبأقل التكاليف المادية، على اعتبار أن الترخيص في بيع هذا العقد يتولاها تجار يتوزعون في كل الأماكن. لكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو هل يكفي الحصول على نسخة من العقد أو اعتماد العقد؟ وهل أن هذا العقد مازال صالحا في ظل جملة التطورات الاجتماعية والعقارية والتجارية التي عرفتها البلاد؟ هذه الاسئلة باتت تطرح بإلحاح أمام جملة من الممارسات التي ما انفكت تبرز وتتفاقم ولا تخلو من التحيل على القانون وعلى العقد ومحتواه في حد ذاته. وهكذا فإن المسوغ أو المتسوخ باتا من ناحية لا يحترمان بنود هذا العقد، ويمكن لكل منهما أيضا أن يتلاعب بالطرف الآخر نتيجة صيغ باتت تعتمد في هذا المجال ولا تخلو من الحيل والطرق الفضفاضة في تحديد التعاملات. ماذا يجري على أرض الواقع بخصوص ظاهرة التسوغ؟ الشيء الملفت للانتباه بخصوص التسويغ أو كراء المحلات على اختلاف أنواعها أنها باتت في نسبة عالية من العمليات التي تتم فيها خاضعة لهامشيين على القطاع. فكلما حللت بحي أو جهة باحثا عن محل للكراء ومهما كانت نوعية المحل الذي ترغب في كرائه، إلا وتلقفتك فئة من السمسارة، الملمين بتلك الجهة وبالمحلات المعدة للكراء داخلها، وعرضوا عليك خدماتهم حسب طلبك. كما أن هؤلاء يوظفون عليك معلوما لا يقل عن عشرة أو عشرين دينارا في كل زيارة لمعاينة المحل، وهي تبقى من المسائل الاساسية لديهم قبل كل شيء. أما صاحب المحل فإنك لا تظفر بالوصول إليه أو اللقاء به إلا بعد حصول الاتفاق المبدئي مع السمسار الذي يبدأ منذ اللحظة الاولى في تقييمك على جميع المستويات، وذلك لتحديد المعلوم الذي سيتقاضاه بناء على المعطيات التي توفرها له. فهو ومن خلال نظرة أولى سريعة يدرس حالتك النفسية وحاجتك الملحة في الحصول على المحل ليضع أمامك ضرب من العراقيل ويبدأ بعد ذلك في تسهيلها بناءا على سخائك معه في دفع جرايته. أما اذا توجهت لوكالة تتولى عمليات التسويغ، فإنك تصاب بدوار في الرأس من كثرة الشروط والاجحاف فيها. حيث تعرض عليك قائمة محلات، واسعار خيالية لها، واذا ما قبلت بمعاينة أحدها، فإنك مجبر على ترقب ساعي الوكالة الذي عادة ما يكون في مهمة مع حريف آخر، واذا ما حل بالوكالة فإنه يبدأ في التلكؤ، والتظاهر بالتعب وحتى الجوع والحاجة الى علبة سجائر. وإن كنت في عجل من أمرك فعليك أن تلبي له بعض هذه المطالب قبل كل شيء. وبعد ذلك يبادرك بالسؤال عن وسيلة نقلك ويشترط عليك العودة به الى الوكالة. فهل أن جملة هذه المعاملات والشروط قانونية أم أنها ضرب من الشروط التي فرضها واقع هذا القطاع والمتعاملين داخله؟ إبرام العقد.. إملاءات أخرى والتملص من تسجيله مطبوعة عقد الكراء في الحقيقة واحدة، وهي تجمع كل القوانين والحقوق والواجبات التي تضمن حق الطرفين. واذا ما تم اعتمادها كما جاءت واتمام بقية الاجراءات المتصلة بها من امضاء وتسجيل لها في المصالح البلدية، فإنه يقع ضمان حق الطرفين بما يكفله لهما القانون. لكن الغريب في الامر أو المتعامل به بنسبة عالية أن المسوغين لا يستوفون عمدا كل هذه الشروط، بل تراهم يتملصون منها أو من بعضها ليبقى العقد غير سليم ولا قانوني. فتارة يكتفون بتعمير العقد وامضائه وعدم تسجيله، وطورا يضيفون له بعض الشروط، وحتى في صورة اصرار الكاري على اتمام شروط العقد ترى أصحاب المحلات يتلكؤون في تسليم وصل المعلوم الشهري، وهي حجة أخرى قانونية أو حيلة يمكن اعتمادها للتخلص من الكاري متى تراءى لصاحب المحل ذلك. نسبة زيادات مجحفة في معاليم الكراء السنوية المشكل الاخر الذي حير المتسوغين وما انفك يتفاقم، ويخضع لأهواء اصحاب المحلات، هو تلك النسبة المائوية في زيادة معلوم الكراء السنوية. فإذا كان القانون قد حدده ب 5 في المائة فقط من معلوم الكراء، فإن توظيفه لا يقل عن 10 و20 في المائة. كما أنه يأخذ جملة من مظاهر التحيل كأن يقوم صاحب المحل بشيء من التزويق للمحل، ويطالب بإضافة معلوم هام، أو يتعلل بحاجته للمحل لحمل الكاري على القبول بالمعلوم الذي يريده. وهذه الاساليب كلها تعتبر ضرب من الضغط على الكاري لينصاع لشروط المسوغ ويقبل بالامر الواقع. إن كل هذا يتم في ظل عدم احترام القانون وفي مجال الفوضى التي عمت مجالات التسويغ واحتكارها والفلتان الذي ما انفك يتزايد ويستغله صاحب المحل لصالحه. ولعل الاغرب من كل هذا هو أن هذه الامور قد أصبحت من المظاهر العادية التي يأتيها البعض ولا رادع لهم. محلات الاصطياف المعدة للكراء لا تخضع اسعرها لشروط منطقية الشريط الساحلي من اقصى شماله الى آخر جنوبه يمثل قبلة المصطافين أثناء الصيف.. وكل قراه ومدنه الساحلية لا تخلو من محلات معدة للكراء، بل إن سكانه قد عمدوا في نسبة هامة منهم الى الاستثمار في هذا المجال وذلك ببناء محلات لهذا الغرض باعتبار أن الصيف وهذه المحلات تمثّل دخلا اضافيا لهم. وبورصة كراء المحلات في المدن الساحلية تنطلق منذ بدايات فصل الربيع، ليحتد نشاطها بداية من شهر جوان، حيث عندها يصبح الطلب كثيرا والمحلات قليلة. داخل عالم كراء محلات الاصطياف مفقود وخارجها مولود، فأسعارها من نار ولا تقدر بمقدار، حيث أن ابسط استيديو لا يقل سعر كرائه لمدة نصف شهرعن 300 الى 400 دينار، أما الشقة فهي في حدود 600 الى 700 دينار. ولا شك أن المحلات الفاخرة تبقى اسعارها لا تطاق حيث تحلق اسعار كرائها في حدود 2000 دينار فما فوق. وقد يخالفني البعض في القول بأن هذه الاسعار عادية ومعمول بها منذ زمان، وهي أيضا تتساوى في كل جهات البلاد الساحلية، لكني اسأل هل يتولى اصحابها دفع المعاليم الموظفة على المحلات المعدة للكراء، وبالتالي يستجيبون لشروط الاداء الضريبي الذي يفرضه القانون، أم انهم ومحلاتهم هذه يتطاولون على المواطنين والقانون. أليس من الاجدى وهم المنتفعون بالملايين أن يكونوا للقانون وللشروط التي يخضع لها قانون تسويغ المحلات محترمين؟ هل يخضع مجال تسويغ العقارات الى كراس شروط؟ إن ما يمكن التأكيد عليه هو أن قطاع كراء العقارات وما يشمله من تعاملات يومية، قد بات لا يخلو من التجاوزات والنقائص، ولعل القضايا العدلية المطروحة في المحاكم والتي تعد بالالاف أكبر دليل عما يشهده القطاع من فوضى وتجاوزات. فلم يعد العقد الخاص بكراء المحلات كاف لضبط شروط التعامل، ولم يعد القطاع سائرا من خلال اطراف واضحة، بل غلب عيه عامل التهميش والهامشيين وبات كل يدلي بدلوه داخله وينصب نفسه وسيطا وسمسارا. ولا شك أن جملة هذه المظاهر تخل بالقانون، وتعود على اداء الضريبة لخزينة الدولة بالضرر نتيجة التملص الواضح من الآداء الضريبي. إننا نعتقد أنه قد حان الوقت لتنظيم القطاع واعتماد الشفافية داخله لضمان حقوق كل الاطراف بما في ذلك البعد الضريبي وخزينة الدولة. فهل تتظافر جهود الاطراف المسؤولة وفي مقدمتهم وزارة العدل بإصدار كراس شروط في نسخ مختلفة تستجيب لكل أوجه التسويغ، وتكون البديل الايجابي الهادف لتنظيم القطاع والذي يحد من مظاهر التلاعب بالقانون والحد من التهرب الضريبي في هذا المجال الذي يدر على البعض أموالا طائلة دون سداد واجباتهم الضريبية للدولة؟