يرجح أغلب المراقبين لظاهرة صعود أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد إلى الرئاسية، أنّها لم تكن منعرجا سياسيا عفويا، بل حراكا مخططا له لم تكتمل حلقات تنفيذه بعدُ. ويشير المتابعون إلى رضا شهاب المكي، القيادي اليساري السابق الذي ابتعد عن الأضواء منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي إثر خلافه مع تنظيم الوطد الذي كان أحد مؤسسيه. وعاد رضا المكي إلى ساحة العمل العلني بعد الثورة، مدافعا عن المشروع الذي تبنّاه رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيد وهو بناء نظام سياسي جديد ينطلق من المحليات إلى المركز، وهو ما يقتضي بالضرورة قانونا انتخابيا يقوم على التصويت على الأفراد لا على القائمات الحزبية. وقد صرّح قيس سعيد في أكثر من مناسبة أنّه مارس واجبه الانتخابي أوّل مرة في حياته في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية يوم 6 سبتمبر الماضي، وذلك لأنّه غير مقتنع بالتصويت على القائمات، ولذلك لم يصوّت في الانتخابات التشريعية التي نظمت قبل الثورة وبعدها. لكن متى حصلت هذه القناعة وهل كانت قناعة راسخة يتبنّاها قيس سعيد منذ ما قبل الثورة؟ وتكشف تصريحاته سنة 2004 لجريدة الصباح أنّه كان يشيد بمزايا التصويت على القائمات، وهو ما يعني أنّ فكرة التصويت على الأفراد طارئة، وربّما يكون للحلقة القريبة منه بعد الثورة تأثير في تبنّيه قناعته الجديدة، مثلما يرجّح كثيرون. فقد كان قيس سعيد يعتبر أنّ نظام الاقتراع على الأفراد تدخل فيه اعتبارات أخرى عند التصويت، وهي حسب تقديره عيوب، منها الولاءات العائلية والقبلية والجهوية وإشعاع المترشحين كأفراد والمصالح الاقتصادية التي قد تربط المترشح بالناخب، وذلك بخلاف القائمات الحزبية التي تحمل برامج. وكانت يومية "الصباح" في عددها ليوم 29 سبتمبر 2004 أجرت حوارا مع قيس سعيد، قبل حوالي شهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، على هامش مشاركته في ندوة سياسية علمية بحضور جامعيين وسياسيين بينهم فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب آنذاك، كان موضوعها مشروع إحداث الغرفة البرلمانية الثانية "مجلس المستشارين". وقد نظمت الندوة الجمعية التونسية للقانون الدستوري التي كان سعيد نائب رئيسها. وفي ما يلي نصّ الحوار: د. قيس سعيد نائب رئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري ل"الصباح": هذه مزايا التصويت على القائمات وليس على الأفراد القانون الانتخابي لا يقصي المستقلّين أستاذ قيس سعيد بدأ العدّ التنازلي تحضيرا للانتخابات التشريعية القادمة.. وهي انتخابات سوف يجري الاقتراع فيها على نظام القائمات. بينما يجري التصويت في بلدان عديدة على الأفراد.. ألا تعتبر أنّ نظام التصويت على الأفراد قد يتيح للناخبين فرصة اختيار مرشحين من قائمات متعددة الألوان سياسيا وحزبيّا؟ هناك خلاف في تقييم تجربتيْ الاقتراع حسب نظام القائمات والاقتراع على الأفراد في العالم أجمع. وفي تونس برز حوار قانوني حول نظم الاقتراع قبل التعديل الذي أقرّ العمل بنظام التصويت على القائمات عوض التصويت على الأشخاص. ومن مزايا التصويت على القائمات- التي تكون غالبا ممثلة لأحزاب سياسية- أنّ الناخب يجد نفسه مخيّرا بين برامج انتخابية لعدد من الأحزاب السياسية أو القائمات المستقلة، بخلاف نظام الاقتراع على الأفراد حيث تدخل اعتبارات أخرى عند التصويت منها الولاءات العائلية والقبلية والجهوية وإشعاع المترشحين كأفراد والمصالح الاقتصادية التي قد تربط المترشح بالناخب.. إلى غير ذلك من الاعتبارات الذاتية التي قد تقلل من أهمية التصويت على برامج سياسية واضحة لقائمات تتميّز عن بعضها البعض بألوانها السياسية والحزبية، وإن كان البعض يرى أنّ التصويت على القائمات يحرم الناخبين من فرصة التصويت على شخصيات من أكثر من قائمة وتطعيم قائمات الأحزاب بشخصيات مستقلة. لكنّ اعتماد نظام التصويت على القائمات وليس على الأفراد يؤدّي عمليا إلى فوز حزب الأغلبية بالأغلبية الساحقة من مقاعد مجلس النواب وبمائة بالمائة من المقاعد التي يجري التنافس حولها في مختلف الدوائر الانتخابية؟ من الناحية القانونية يمكن لكلّ قائمة من قائمات أحزاب المعارضة أن تفوز بأغلبية الأصوات، أي بكل المقاعد، في إحدى الدوائر الانتخابية أو في أكثر من دائرة. لكن فوز قائمات حزب التجمع الدستوري الديمقراطي بالأغلبية الساحقة من المقاعد في مجلس النواب وبكل القائمات التي توزع جهويا ليس ناجما عن نظام الاقتراع بل عن الخلل في ميزان القوى بين الأحزاب السياسية التي تشارك في الانتخابات.. المسألة مرتبطة إذن بوزن الأحزاب المتنافسة وبتاريخ الأحزاب ومسيرتها وإشعاع كل منها وليس بمبدأ اعتماد التصويت حسب نظام اقتراع. لكن ألا ترى أنّه رغم المزايا الكثيرة لنظام الاقتراع على القائمات المعتمد منذ تعديل القانون الانتخابي فإن الفرص تضاءلت أمام مشاركة المستقلين في الانتخابات التشريعية بخلاف الأحزاب السياسية؟ من الناحية القانونية ليس هناك ما يمنع ترشح المستقلين للانتخابات البرلمانية. ويمكنهم أن يفوزوا بمقاعد في البرلمان إذا حصلوا على عدد من الأصوات يفوق الحدّ الأدنى لتوزيع المقاعد الوطنية على القائمات التي لم تفز بالأغلبية، لأنّ القانون الانتخابي لا يشترط توزيع المقاعد التي توزع وطنيا على قائمات الأحزاب. ويمكن للقائمات المستقلة أن تتحالف فيما بينها لكنها بخلاف الأحزاب السياسية لا يمكنها أن تستفيد من عملية جمع الأصوات التي يحصل عليها مرشحوها في مختلف الدوائر الانتخابية كما لا يمكنها أن تترشح بنفس اللون في أكثر من دائرة لأنّ ذلك يجعل منها حزبا سياسيا غير موجود قانونا. أستاذ قيس سعيد أعددت دراسة مطولة في إطار الجمعية التونسية للقانون الدستوري عن العلاقة بين مجلس النواب والغرفة الثانية للبرلمان، اي مجلس المستشارين، التي من المقرر أن تفتح أشغالها في الربيع القادم. كيف تنظرون إلى الدور المرتقب للغرفة الثانية وعلاقتها المرتقبة بالسلطة التنفيذية؟ سوف تعتمد تونس لأول مرة نظام البرلمان ذي الغرفتين. وحسب النص القانوني فإن الغرفة الثانية للبرلمان ستقوم بدورها بمناقشة مختلف المشاريع التي تعرضها الحكومة، ويمكنها أن تقدم اعتراضات على مشاريع السلطة التنفيذية، وأن تطالب بتعديلها كليا وجزئيا. ومن خلال التجارب العالمية الكثيرة للبرلمان بغرفتين يمكن تقديم ملاحظات قانونية وسياسية عديدة من قبل أنصار الثنائية البرلمانية ومعارضيها. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإطار القانوني الذي سوف تؤسس على ضوئه الغرفة الثانية، أي مجلس المستشارين، يرجح كفة مجلس النواب، في صورة بروز خلاف جوهري بين المجلسين لا سيما بالنسبة لبعض المشاريع مثل مشروع الميزانية. وهذا المعطى سوف يطرح بوضوح لمّا تبدأ الغرفة الثانية عملها خاصة أنّ مجلس المستشارين سوف يكون مفتوحا أكثر لممثلي النقابات والمنظمات المهنية والقطاعية والجهات. هناك من يعتبر أنّ الإصلاح الدستوري وتطوير القوانين المنظمة للحياة السياسية مثل القانون الانتخابي خطوات سابقة لأوانها وأنّ المطلوب البدء بتنقية المناخ السياسي وتكريس الإصلاح السياسي ميدانيا، ما هو رأيك؟ كنت دائما من المؤمنين بأهمية البدء بالإصلاح الدستوري وتطوير القوانين. وبكون الإصلاحات القانونية تمهد لإصلاح المجتمعات وتطوير الحياة السياسية، لأنّ القوانين المتطورة والدساتير التحررية تضمن الأرضية المناسبة للإصلاح والتغيير. وعلى سبيل المثال أذكر أنّ إصدار قانون مجلة الأحوال الشخصية بعد الاستقلال مباشرة خطوة سبقت إصلاح أوضاع المرأة والأسرة في تونس. ووجود قانون متطور ساعد على تحقيق الأهداف الإصلاحية التي وردت في مجلة الأحوال الشخصية. المصدر: الصباح 29 سبتمبر 2004، ص 4، حاوره كمال بن يونس.