من المؤكّد أنّه ومن أولويّات رسائل الإعلام الحرّ والفاعل أن يسعى إلى تقديم المُعطي ويعمل على تقريب الصورة ويعكف على تخصيب ثقافة الاستنتاج، لكن حين يتعلّق الأمر ببعض القضايا الدقيقة والحسّاسة وفي غياب المُعطيات الدنيا وأمام خطورة الانحراف في الاستنتاج يمكن للإعلام الواقعي والمسؤول أن ينخرط في عمليّة تفكير بالصوت العالي ليشارك المجتمع حين يكون بصدد التطلّع إلى الحقائق والبحث عن الأجوبة الشافية لأزماته خاصّة إذا تعلّق الأمر بجريمة مثل التي ارتكبتها بعض الأيادي الآثمة صباح اليوم الأربعاء في حقّ القيادي اليساري شكري بالعيد. ونحن نمارس شيئا من التفكير بالصوت العالي لا بد لنا أن نسوق جملة من الحيثيّات ذات الصلّة بالمناخ الذي أوجد الجريمة، ولا يمكن أن نتداول أي تفصيلة قبل الحديث عن ملفّ الاغتيالات الذي طُرح في الأشهر الأخيرة والذي كان يستهدف شخصيّات سياسيّة ووطنيّة وما شاب هذا الملفّ من صفقات للسلاح بين بعض رجال أعمال وتجّار الحديد القاتل، ومن ثم نخلص للتذكير بأنّ يوم الجريمة تزامن مع اليوم الموعود لطرح قانون تحصين الثورة على أعضاء المجلس التأسيسي، القانون الذي استفزّ العديد من الجهات المتورّطة ودفع أرخبيل التجمّع الدستوري الديمقراطي الخامل إلى التهديد بإحراق البلاد في صورة تمرير القانون الحازم الذي يعدّ بمثابة الضربة القاضية التي لن تُحيل هذه القوى على المعاش فحسب إنّما ستفتح الباب أمام استرجاع ممتلكات الشعب وربما رفع الستار عن الجرائم الخطيرة التي ارتكبت على مدى عقدين تحت رعاية المخلوع وأجهزته وأسرته، نفس القانون الذي تسعى الثورة التونسيّة لتمريره وقطع الطريق أمام قوى الردّة عارضه السّيد الباجي قائد السبسي بقوة وهاجمه بلا هوادة واعتبره أكبر خطأ يمكن أن يتمّ ارتكابه وأكّد أنّه إذا مرّ سيكون بمثابة القضاء على ثمرة الثورة، قائد السبسي الذي اجتمع بالسفير الفرنسي خلال وقت وجيز قبل اغتيال بلعيد أبدى عداوة مفرطة وانزعاجا غير مبرر تجاه قانون من المفروض أن يرحّب به كل من يخشى على مصير ثورة الحريّة والكرامة، وما لفت الانتباه هو تأكيد السبسي على استحالة مرور هذا القانون حتى بعد أن علم بأنّ الأغلبيّة في المجلس التأسيسي مع مروره وقد أقرّت العزم على التصويت بذلك . يمكن أن نسرد الكثير من التفاصيل التي تكون قد شكّلت شرايين للجريمة ، فأمام نخبة سخيّة في ضخّ التوتر لديها جنوح شره نحو الفتنة ما فتئت تكثّف العراقيل من أجل الحيلولة دون الخروج الآمن من المرحلة الانتقاليّة، أمام هكذا نخبة وأمام مداومتها على جملة من الصنائع الماكرة لا شكّ أنّنا سنجد أنفسنا أمام أرضيّة ملغّمة تستجيب بسرعة إلى عناصر الاستفزاز، وبالتأكيد أنّ رغبة بعض النخب الجامحة في ثقافة التناطح وفي زرع الفتنة فيما بين مؤسسات الدولة سيغري بعض القوى المتربّصة ويكون لها بمثابة الضوء الأخضر لتنفيذ أجندتها. لا يمكن أن نستبق التحقيق ثم كلمة القضاء الأخيرة حول ملابسات هذه الجريمة البشعة ولا يمكن أن نحمّل بشكل استباقي مسؤوليّة دماء بلعيد لطرف معين، لكن بالتأكيد يمكننا القول استنادا إلى الأشرطة المصوّرة والبيانات الموثّقة أنّ بعضهم وعد تونس بحمام من الدم إذا مرّ قانون تحصين الثورة، وفي اليوم الموعود لمروره سال الدم، فهل وفّى هؤلاء بوعدهم أم هي الصدفة الخارقة التي لمّت شمل التهديد على اليوم الموعود على دماء شكري بلعيد !