بعد ستة عشرة يوما قضّينا ليلَها في الأقبية نُراود النوم ويُراودنا،ونهارَها في “18 جانفي” نُعاون البحّاثين على ترميم محاضرهم في شأننا، يُكرِهوننا على الاعتراف بما لم نفعل، ثم يحمِلوننا على “الاطمئنان” لما “اعترفنا” به، تمّ نقلنا إلى الإدارة العامة للأمن الوطني، المعروفة اختصارا ب”بوشوشة” للقيام “ببعض الإجراءات البسيطة” كما قيل لنا، ثم إحالتنا من ثمّة على القضاء، في طريقنا إلى السجن سنين مددا؟. لم أعد أذكر في أية ساعة من النهار كان ذلك، لكنني أذكر أنهم كانوا يُصفّفوننا في ممر الطابق الثاني من إدارة الاستعلامات ب18 جانفي، وبين الحين والحين كان كاتب “ولد بلادي” يصفع أحد أصدقائي الخمسة بملء يده على ملء وجهه حتى تسمع للصفعة صدى من أجل أن يُحسِن الوقوف في الصف؟؟؟،وكان إذا وصل إليّ عاملني بأدب واحترام،حتى إذا ما فاتني عادت يده “تجود” على هذا أو .ذاك من رفاقي بما “جادت” به على من سبقه. كان ذلك يزيد في إيذائي وأقول في نفسي لماذا لا يضربني مثل ما يضرب الآخرين؟… ولما استقام الصف مثل ما أراد ذلك الرجل،وأرادت يداه، تقدّم منا فريق آخر من البوليس قادم من بوشوشة…قسّمونا إلى فريقين من ثلاثة أنفار كل واحد،واقتادونا عبر الدرج إلى سيارتين كانتا تسدّان باب الإدارة،وانطلقت السيارتان تسابقان الطريق،ومسّاحتا البلّور تشتغلان على أشدهما لمسح أثر المطر الذي كان ينزل بغزارة… وخلال الطريق كان أحد مرافقينا من البوليس يسألني عن مسقط رأسي وعن المعهد الذي درست فيه والذي حصلت فيه على الباكالوريا سنة 1986. بدا لي أن الرجل يعرف عني أشياء أخرى، كان يسألني سؤال العارفين، وكنت أكره العارفين، وأريد أن تكتفي الداخلية بما “اتفقنا” عليه في البحث، وأستعجل استقراري في سجن بات محتوما…وبات أمنية. ولكن الرجل ظل يسأل ويلحّ في التفاصيل “مع من قرأتَ في الباكالوريا من جماعة نصرالله [اسم تلك القرية]؟… مَن مِن الأولاد؟ مَن مِن البنات؟ هل تعرف فلانا؟ هل تعرف فلانة؟…ثم سمّى لي تلك التي أصبحَتْ فيما بعد زوجتي؟.. يا إلاهي ماذا يريد هذا الرجل؟ ومن أين جاء؟ ولماذا يعرف كل هذه الأشياء؟… ما أسوأ حظي…ولماذا لا يعرف أي شيء عن أصدقائي الآخرين؟. وأضاف “أنت تزوجت فلانة؟… متى كان ذلك؟ هل عندك أبناء؟ وأين تعمل هي؟،الخ كان ذلك البوليس، لسوء حظي، ابن نفس تلك القرية التي درستُ فيها المرحلة الثانية من التعليم الثانوي، كان يعرفني ولا أعرفه،يبدو أنه أصغر مني سنا قليلا. ….. ولما وصلت بنا السيارة،وارتفع ذلك الحاجز الحديدي، انطلقت داخل تلك الإدارة/ القلعة، الواقعة بين باردو وباب سعدون، في مستوى ما بين سكة المترو وسكة القطار، وولجت مسرعة كأنها في طريق سيارة سريعة. كنت دوما فيما مضى أمرّ من ذلك المكان وما كان يخطر على بالي أن هناك تلك الإدارة بمثل تلك المساحة في ذلك المكان الذي تغمره المباني من ثلاث جهات حتى لا يكاد يُرى. وكانت السيارة بقدر ما تسرع،وبقدر ينكشف لي كبر المساحة،بقدر ما يسكن قلبي رعب شديد: ما هذه الإدارة؟ ولماذا جيء بنا هنا؟ ألم نقل كل ما عندنا؟ ألم “نتعاون” بما فيه الكفاية؟ هل سوف نعيد تلك الأبحاث؟ … تتدافع الأسئلة في أذهاننا، ويتركز في قلوبنا الرعب، لم نعد نطيق البحث، ولم نعد نبحث عن حريتنا، لقد أصبحنا نبحث عن السجن ولا شيء سواه؟أليس عقوبة المجرم السجن؟ فلماذا إذن لا يودِعوننا السجن، فنرتاح، ونحن قد اعترفنا بإجرامنا و”اطمأننّا” باعترافاتنا؟…حتى السجن يمنّون به علينا؟… …. …ثم وصلنا أخيرا،ووقع إنزالنا من السيارتين،واقتادونا إلى أحد المكاتب. كان كل شيء يوحي بأننا كَمَنْ هَوَتْ الريح في مكان سحيق، لا أثر للمدينة هنا، وكل شيء يوحي ب”الداخلية”…تقدّمْنا مصطفّين مرعوبين واحدا وراء الآخر كأنما نُساق إلى الموت،وكنت أنا رأس الصف، تناول ذلك الضابط ملفا سميكا من ذلك السائق الذي كان يسألني في السيارة عن “تفاصيلي الصغيرة”، ألقى عليه نظرة عابرة،كطبيب يقرأ بسرعة تقرير طبيب سبِقه في فحص مريض بحيث يكتفي منه بالعناوين، وسألنا: “هذه إذن أبحاثكم التي اعترفتم بها بمحض إرادتكم واقتناعكم…أليس كذلك؟” … وشرع في قراءة بعض السطور رأيتُ أن أوضّح فيها بعض الأمر بحيث تُحمَلُ على المعنى الذي أردتُه،فرمى الرجل الأوراق من يده بقوة وقسوة وصرخ في وجهي بأعلى صوته “أنت؟…أنت ما زلت تتكلم؟ بعد الذي فعلت؟ بعد أن قَلَبْتَ الدنيا وأقمتها وأقعدتها؟ أنت؟…” …شعرت من صراخ الرجل ومن جنونه بأمريْن،الأول أنني لا أُحاكَمُ من أجل ما قلت و”اعترفت”،وإنما من أجل أشياء وانطباعات يعرفونها هم،أو يتوهمون أنهم يعرفونها،ولا أثر لها في أوراق القضية، والثاني أنه غير راض على مضمون تلك الأبحاث…لم يكن هيجانه يعني شيئا آخر… …. ندمتُ على فعلتي وتمنيتُ لو لم أفعل ولو لم أغضِبه. وماذا عليّ لو سكتُّ؟ أليس ذلك أفضل من أن أثير أعص
اب الرجل؟ أرأيتُ لو مزّق تلك الأوراق وأعاد كل شيء من الألف إلى الياء؟ وأبدَلَني بدل التهمة خمسين تهمة؟…طأطأت رأسي وتمنيت لو خرس لساني،وظللت أنتظر سكونه ليكمل حديثه وننصرف حيث لا أدري أين سننصرف، ثم أضاف يسألني “أنت قرأت في نصرالله” قلت نعم، قال “هل تعرف هذا الرجل؟” وأشار إلى البوليس الذي كان يرافقنا في السيارة. حسبت أنه يمزح مع صاحبه،وأنه يريد تغيير الجو المشحون بصراخه وجنونه،وهمهمتُ بجواب لا معنى فيه، فعاود بقوة “هل تعرفه؟…هو أيضا من نصرالله…هل كان يجلس معكم في الحلقات؟” فقلت له،وقد علمت أنه لا يعرف المزاح، “لا أعرفه”، فأضاف “تثبّت من وجهه مليّا،وإلاّ سوف أعلّقه وأعلّقك معا…” فعاودتُ وأنا أتمنى أن ينتهي هذا الحوار الأقسى من التعذيب: “لا…لا أعرفه”…التفتُّ إلى ذلك البوليس فإذا به واجما، خائفا، مثلي تماما،ففهمت أن ذلك البحّاث الفظّ القاسي إطار أمني رفيع،وأنه لا يمزح مع ذلك البوليس السائق البائس… وأشار إليه أن يأخذنا إلى الإيقاف ريثما يجهز بحثنا، فتساءلتُ “أي بحث يقصد؟…أليس بحثنا جاهزا…”؟، ألم نُمضِ عليه في 18 جانفي، وسألونا إن كنّا مقتنعين؟، وأجبناهم بأننا مقتنعون “حقا”، وأننا نستأهل ما نحن فيه، وأرسلونا إلى هنا وهم “يتمنّون” بأن تكون العقوبة “خفيفة”؟؟؟. وأخذنا ذلك البوليس الخائف،وهو يتجنب الاقتراب مني بعد أن كدتُ أجني عليه لو قلت فيه كلمة واحدة، وسلَّمَنا،كخرفان مذعورة تحيط بها ذئاب كاسرة،إلى آخرين،ليسوا أقل قسوة…. يتبع صالح مطيراوي 08 11 2011