واحدة من بين العاهات الكثيرة التي جعلت النظام السياسي التونسي بؤرة للفساد والإستبداد لعقود من الزمن تمثّلت في النظام الرئاسي الذي كان منذ يومه الأول رئاسويا فلا الحبيب بورقيبة الذي أباح لنفسه رئاسة مدى الحياة ولا المخلوع زين العابدين بن علي الذي شرّد كلّ أطياف المعارضة السياسية كان قابلا بفكرة التداول السلمي على السلطة وحدها الثورة ودستورها الجديد هي التي سمحت بمشاهدة تلك الصورة الأولى من نوعها في الوطن العربي لرئيس يصل قصره بأوات حرة ونزيهة وشفافة وآخر يغادره دون إنقلاب على السلطة بشكل من الأشكال. نزولا عند رغبة واضحة تونسيا في تجاوز عاهات النظام السياسي السابق حدّد الدستور الجديد للبلاد نظاما سياسيا يقطع من إمكانية عودة حكم الفرد أي النظام الرئاسي وحدّد النظام "شبه شبه" نظاما جديدا للحكم في البلاد كخطوة أولى نحو تقسيم السلطات وتشريك أكبر قدر ممكن من التونسيين في تقرير المصير وفي إدارة الشأن العام بأشكال مختلفة لا تقتصر فقط على المجلس النيابي المنتخب أو الرئيس المنتخب بل وتطال أيضا مجال بلدية وتنموية محلية وجهوية وإقليمية. السبسي وثلاث سنوات من المحاولات المتكرّرة: مصادر مقرّبة من رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي تحدّثت لبعض وسائل الإعلام المحلية عن إستعداد الأخير لطرح مبادرة جديدة لتغيير النظام السياسي في البلاد مقترنة بتغيير القانون الإنتخابي الحالي في خطابه المنتظر بمناسبة عيد الإستقلال في 20 مارس الجاري، خبر لم تفنّدها رئاسة الجمهورية وتؤكّده النوايا والتصريحات السابقة للسبسي بشأن النظام السياسي. خلال الثلاث سنوات الماضية لم يدّخر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي جهدا في إقناع الجميع من أحزاب سياسية ومواطنين تونسيين بأن النظام السياسي الحالي "شاذ" على حدّ وصفه وهو الذي يصرّ بشكل واضح في كلّ حواراته التلفزيونيّة على أنّه لا وجود لثلاث رئاسات في البلاد وبأنه الرئيس الوحيد. تسريبات اجتماع الهيئة السياسية لنداء تونس في شهر مارس 2017 كشفت أيضا عن وجود مساع لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية. كما دعا حافظ قائد السبسي خلال الاجتماع الى اعداد مبادرة لتغيير نظام الحكم الى نظام رئاسي، وقبلها أعلنت كتلة نداء تونس يوم 5 أفريل 2016 اعتزامها تقديم مبادرة لتنقيح الدستور قبل أن تعدل عن موقفها بعد جدل واسع وتعلن أنها ستطرح مبادرة تشريعية لتنقيح القانون عدد 32 لسنة 2015 المتعلق بضبط الوظائف العليا في البلاد بشكل يجعلها حصريا من صلاحيات الرئيس. جدير بالتذكير في هذا السياق أن الفصلين 143 و144 من الباب الثامن من الدستور ينصان على أنه "لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء البرلمان حق المبادرة باقتراح تعديل الدستور ولمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر" وأن "كل مبادرة لتعديل الدستور تطرح من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لابداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بالدستور"، ولا تزال المحكمة الدستورية معطّلة بسبب عدم التمكّن من إنتخاب أعضاءها. لماذا يريد السبسي تغيير نظام الحكم؟ يصرّ الباجي قائد السبسي على وجود تعثّر في إنجاز إصلاحات كبرى منتظرة بسبب طبيعة النظام السياسي الحالي كما يؤكّد في أغلب حوارته على أنّ تقسيم السلطات أضعف الدولة دون أن يتردّد في إظهار رغبته الشخصية التي تحرّكه من وراء مطلبه بالعودة إلى النظام الرئاسي، رغبة قد تبدو طبيعية بحكم تكوينه ومسيرته السياسية وربّما أكثر بتعلّقه الشديد بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. في وقت سابق، خلال شهر جانفي من سنة 2018 الجارية أوردت صحيفة "لوموند" الفرنسيّة تقريرا مطوّلا عن مساعي الباجي قائد السبسي للعودة إلى النظام الرئاسي ووصفت ذلك بمحاولة إعادة إنتاج "بن علي جديد"، تقرير مطوّل جاء على مقارنات بأدلّة واضحة على أن هذه الخطوة قد تمثّل الخطوة الأخطر على الثورة وعلى التجربة الديمقراطية في البلاد منذ الثورة. ثلاث مخاطر حقيقيّة وراء العودة للرئاسي: بعيدا عن طموحات وغايات ورغبات ونوايا من يطرحون مسألة العودة إلى النظام الرئاسي في تونس يوجد ثلاث مخاطر حقيقيّة وجادّة تستهدف التجربة الديمقراطية الناشئة في البلاد من وراء هذه الخطوة يتعلّق الخطر الأوّل بالإقدام على تعديل الدستور الجديد للبلاد بشكل قد يكون خطوة نحو فتح الباب على تعديلات أخرى رغم مرور أربع سنوات فقط على إصداره بما يجعل تقييم النظام السياسي الجديد أمرا غير ممكن لقصر الفترة أمّا الخطر الثاني فيتمثّل في الإقدام على خطوة تتعلّق بالمسّ بأي بند من بنود الدستور في غياب المحكمة الدستوريّة التي لم يتم إرساؤها بعد أمّا الخطر الثالث فيتمثّل في الإنقلاب بشكل من الأشكال على الخطوات التي قطعتها البلاد نحو إرساء اللامركزيّة والفصل بين السلطات كما أقرّ ذلك الدستور الجديد للبلاد. تكشف المخاطر الثلاث التي تحيط بمبادرة منتظرة لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بشأن تغيير النظام السياسي في تونس على أنّ الدستور الذي يمثّل عماد التجربة الديمقراطيّة الناشئة هو المستهدف بالأساس وأن كلّ مسّ من ركائزه هو خطوة نحو العودة إلى الوراء ومحاولة خنق التجربة الناشئة وقتلها في المهد. في الوقت الذي تستعدّ فيه البلاد لتنظيم أوّل إنتخابات بلديّة كخطوة أولى لتطبيق الباب السابع من الدستور المتعلّق بالديمقراطيّة المحلية تمثّل مبادرة العودة إلى النظام الرئاسي التي يعتزم الباجي قائد السبسي تقديمها في20 مارس الجاري خطوة في الإتجاه المعاكس لعودة السلطات إلى القصر وهو ما مثّل سببا رئيسيا من أسباب إستبداد عقود من الزمن ثار ضدّه الشعب.