قدّمت الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات في تونس إحصائيات شبه نهائيّة لأوّل إنتخابات بلديّة في البلاد إنتظمت على دفعتين أولى صوت فيها الأمنيون والعسكريون وثانية شدّت أنظار الرأي العام في الداخل والخارج للمدنيين يوم الأحد6 ماي الفارط بعد تأخير لأكثر من مرّة في أوّل خطوة نحو تفعيل الباب السابع من الدستور الجديد الذي ينص بوضوح على اللامركزية والديمقراطية المحليّة. النتائج الأوليّة لصناديق أوّل إنتخابات بلديّة في تونس بعد الثورة أسالت حبرا كثيرا مطلع الأسبوع الحالي وتباينت فيها التحاليل والقراءات غير أنها إلتقت في أغلبها عند نقطة مهمّة وهي أن إدارة الإختلاف وحسم التنافس بات تحت وصاية الشعب بنفسه من خلال الصناديق بعيدا عن الإقصاء والإنقلابات وغيرها من سمات النظم الدكتاتوريّة، خطوة جديدة رحّب بها التونسيّون وتتالت التباريك بنجاحها من الخارج خاصّة وأنها لبنة أخرى من لبنات ترسيخ معالم إنتقال ديمقراطي حقيقي في البلاد. مع الفوز الساحق لحركة النهضة وحركة نداء تونس بهذه الإنتخابات بفارق شاسع على بقيّة الجبهات والإئتلافات والأحزاب في مقابل صعود كتلة "المستقلّين" ،بدأ الحديث بشكل مبكّر عن طبيعة التحالفات على مستوى محلّي، تحالفات تكشف الإحصائيات العددية أنه لا تفترض إلاّ تكريسا لمزيد من التوافق لا فقط بين النهضة والنداء فحسب بل ومع بقيّة الأطراف التي تحصّلت على مقاعد. إذ باستثناء عدد قليل من البلديّات التي تمكّنت قائمة من حصد أغلبية مقاعدها، ستكون أغلب الدوائر أمام حتمية إدارة الإختلاف بالتوافق والحوار. زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي فاز حزبه بالمرتبة الأولى وبأغلبية مريحة في عدد من الدوائر البلديّة خرج بشكل مبكّر معلنا أن النتائج يجب أن تدفع نحو مزيد من التوافق بدون إقصاء لحشد الدعم وتوفير أسباب النجاح للمجالس البلديّة المنتخبة. زعماء اغلب الأحزاب الاخرى خيروا الصمت او الفرار الى الامام بالحديث عن هزيمة النهضة وانتصار المستقلين او العودة الى أسطوانة توحيد العائلة الديمقراطية !! البعض ركز على هزيمة التوافق والحال ان الأحزاب والبدائل المطروحة ضد التوافق سواء علي يسار النداء او على يسار النهضة لم تنجح في تجاوز عتبة الواحد بالمائة بما في ذلك الجبهة الشعبية التي تراجعت بحدة مع استثناء متوقع لحزب التيار الديمقراطي الذي استفاد من ضخ إعلامي لفائدة قادته وردة فعل متوقعة من جمهور الثورة على تمرير قانون المصالحة وإيقاف مسار العدالة الانتقالية بالقوة من طرف نداء تونس. الانظار كانت متجهة صوب المدير التنفيذي لنداء تونس حافظ قائد السبسي، والذي سقط تقريبا في نفس فخ انتخابات ألمانيا التي حاول تحميل مسؤوليتها للنهضة التي لم تقم بما يلزم لضمان نجاح قائمته!! السبسي الابن الذي استفاد من تحالف حزبه مع النهضة ليتجاوز محنة الشقوق وليمرر قانون المصالحة ويحافظ على استقرار الحكومة التي يحتل فيها النداء الأغلبية ، يبدو هذه المرة أيضا معنيا بحماية بعض "المقربين " والذين يطمعون لوراثته، اكثر من النظر الى مستقبل حزبه. بل لعل بعض المحيطين به و"بالقصر" يحاولون إقناعه بان النهضة معزولة ومذعورة ويمكن ان تقبل اَي خيار على اعتبار ان الإسلاميين منكسرون في العالم العربي الشيء الذي تكذبه مؤشرات عديدة منها ما يتصل بالحفاوة التي تجدها قيادة النهضة في العالم وعودة الإسلاميين الى الحكم في ماليزيا، وانتخاب إسلامي على راس مجلس الدولة الليبي … اضافة الى المد القوي للتجربة التركية ونجاح المغرب الأقصى في تجربة التحالف بين العرش وحزب العثماني وبنكيران السبسي أعلن أنّ حزبه سيعمل على عقد تحالفات على المستوى المحلّي مع الأطراف والمكونات التي وصفها ب"الحاملة للمشروع الوطني" في "مواجهة" الإسلاميين أي أنّ التوافقات لم تعد حسب هذا القول إستراتيجيّة وطنية في علاقة مباشرة بالمصلحة الوطنية وإدارة التعددية والإختلاف بل بمصلحة حزبية أو إيديولوجية ضيّقة. تصريحات المدير التنفيذي لنداء تونس تتزامن مع جدل بدأ يشق الرأي العام في البلاد حول رئاسات بعض البلديات الكبرى على غرار بلديّة تونس الأقدم في الوطن العربي بالتزامن مع عودة بعض شعارات الإستقطاب الثنائي. وهي تصريحات يبدو انها لم تقنع المنشقين عن النداء الذين حركوا ماكينة مجنونة للمطالبة برحيله متناسين ما بذله في الأوقات العصيبة التي مر بها الحزب للحفاظ على وحدته ووجوده، والحصول على نتيجة تبدو مقبولة في الانتخابات البلدية. ما زاد الطين بلة هو ان هذه التصريحات باتت تصب في اجندة بعض الجهات التي فشلت في إيقاف مسار البلديات عبر الدعوة لاسقاط الحكومة بما يعني "تحالفا مصلحيا ظرفيا" هدفه إسقاط رئيس الحكومة يوسف الشاهد دون تجهيز بديل مقنع، وليس التفكير البناء في مستقبل العملية السياسية . وهو ما يعني ان خسارة النداء قد تكون مضاعفة هذه المرة : شريك موثوق، وفتح المجال "للمتآمرين "للمنشقين للعبث بالحزب وقيادته التي أظهرت تجانسا معقولا في الحملة الانتخابية تحت إشراف المدير التنفيذي موقف النداء الانفعالي قد يطرح سؤالا عن مستقبل التوافق ومدى وعي مختلف الأطراف بان تركيب المجالس البلدية ومقتضيات المرحلة الراهنة يحتاجان وعيا سياسيا كبيرا وفرزا واضحا بين سلطة متناسقة ومعارضة مسؤولة. ولكن نتيجة الانتخابات تؤكد ان البلاد مازالت تحتاج توافقات واسعة يبدو أقواها الى حد الان التوافق تحت سقف "لقاء باريس" الذي لم يستنفذ جاذبيته رغم الثمن الذي دفعه حزبا النهضة والنداء في السنوات الاخيرة