على بشاعتها ووقعها المأساوي، ساهمت العديد من الحوادث المؤلمة التي عرفتها تونس سنة 2019 في توحيد التونسيين وإبراز الحسّ التضامني التونسي الذي قلّ نظيره في بقية البلدان، حتى باتت تونس مثالا يُحتذى بها في مدى تضامن مواطنيها ووقوفهم جنبًا غلى جنب في الأزمات والمصائب. حافلة عمدون.. دماء الضحايا تختلط بدماء المتبرّعين لا ننسى كيف هرع التونسيون الى المستشفيات ليلة الأحد 1 ديسمبر 2019 لإنقاذ أرواح الشّباب ضحايا حادثة انقلاب حافلة على مستوى منطقة “عين السنوسي” الرابطة بين عمدون وعين دراهم. و أبدت فئة واسعة من التونسيين آنذاك تضامنًا مع اهالي الضحايا فيما توافد مئات التونسيين للتبرع بالدم للمصابين الذي نُقل أغلبهم لمستشفى شارل نيكول بالعاصمة فيما نقل البعض الآخر إلى المستشفى الجهوى بباجة. ولكثرة الوفود المقبلة للتبرّع نشرت وزارة الصحة بيانا عبّرت من خلاله عن إكبارها لرغبة المواطنين في التبرع بالدم، مشيرة إلى أن لديها مخزون كاف من الدم لسد حاجيات جرحى حادث انقلاب حافلة في عمدون بمختلف الهياكل الصحية. ولم يتبرع التونسيون بدمائهم فحسب، بل تطوّع الأطباء من مصالح مختلفة لإنقاذ أرواح الشباب الذي لقي أغلبهم حتفهم ليلة سقوط الحافلة المنكوبة . ضحايا السبّالة والفولارة الخضراء لم تكن حادثة عمدون المثال الوحيد الذي عكس رغبة التونسيين في المساعدة والتعاون، اذ يذكر التونسيون رمزيّة “الفولارة الخضرء” التي باتت شعارا يُرفع فوق أعمدة وأسطح المنازل للتعبير عن تضامن التونسيين مع العاملات الريفيات اللاتي توفين نتيجة انقلاب شاحنة بولاية سيدي بوزيد. وأثارت الفاجعة الأليمة جدلا على مواقع التواصل الإجتماعي، وبادر البعض بإطلاق مباردة تتمثل في تعليق “فولارة” المرأة الريفية فوق الأعمدة وأسطح المنازل، تعبيرا عن تضامنهم مع المرأة الريفية التي تعيش أوضاعا مزرية. وكانت ولاية سيدي بوزيد قد اهتزت شهر أفريل الماضي على خبر مقتل 12 شخصا بينهم 7 عاملات في قطاع الفلاحة وأطفالهن وإصابة 19 آخرين أغلبهن من قرية واحدة، جرّاء حادث اصطدام شاحنتين إحداهما تنقل كمية من الدجاج والأخرى تقلّ العاملات بولاية سيدي بوزيد. أطفال الكراتين : الرّحلة القصيرة في الواقع لم تكن قصّة العاملات الكادحات أكثر القصص الحزينة سنة 2019، بل سبقتها حادثة لا تقلّ عنها أهمية، تتمثل في وفاة 12 رضيعا داخل حاضنات زجاجية، خبرٌ هزّ البلاد وسط دهشة عامة وحالة من التساؤل والذهول بعد انتشاره، وتحوله إلى قضية رأي عام وطنية. ولم يكن عنصر الوفاة الحادث الأبرز في القصّة، بل الأكثر خطورة هو تسلمّ العائلات جثث أطفالهم في صناديق كرتونية، ما تسبب في غضب واستياء واسع حيث اعتبر المواطنون أن طريقة التسليم “قاسية وغير إنسانية”. وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لأحد الرُضّع وهو ملفوف في قطعة قماش بيضاء داخل علبة كرتون موضوعة فوق طاولة خشبية، كما وثّقت لمشهد آخر أكثر قسوة لعائلة تنقل جثة جنينها داخل علبة كرتونية. وانهال النشطاء على مديري وعمال المستشفى، بالانتقادات مُتّهمين إياهم بالتقصير والإهمال وعدم المهنية والاستهتار بمشاعر عائلات الرُضّع الذين قضوا باستعمال أدوية متعفنة ومنتهية الصلاحية، وجرى تسليم جثثهم إلى ذويهم بطريقة مهينة. وتحولت الحادثة إلى كارثة وطنية بامتياز، استدعت انعقاد اجتماع طارئ، بمقر الحكومة انتهى باستقالة وزير الصحة، عبد الرؤوف الشريف وفتح تحقيق في الغرض. جنازة السبسي.. وعند الله تجتمع الخصوم لأّول مرة منذ ثورة 2011، اجتمع الفرقاء السيّاسيون في مسيرة واحدة، ونسيَِ احدهم ما يكنّه للآخر من عداوة او اختلاف سياسي، ذلك لأنّ الموت يُلغي الخصومات ولأنهم كانوا في حضرة جنازة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. ولم يكن نقاء المناخ السياسي العنصر الوحيد اللافت في تلك الجنازة، بل اللافت ايضا الحضور الشعبي واللوحة الفسيفسائية التي كونها الوافدون من المواطنين لتوديع رئيسهم الرّاحل، لوحة فنية اشادت بها مختلف الوسائل الإعلامية العربية والغربية التي تابعت عن كثب تفاصيل الجنازة. وتداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي آنذاك صورا لكبار في السنّ خرجوا رغم تقدم سنهم وحرارة الطقس لتوديع رئيسهم الفقيد محمد الباجي قائد السبسي وصورا أخرى لتونسيين وتونسيات محجبات وغير محجبات يبكين رحيله، وأيضا لرجال قوات الأمن الذين كانوا في لحظات تلاحم مع المشاركين في الجنازة يوزعون قوارير الماء على المواطنين، حين كانت الجموع المحتشدة في انتظار مرور جنازة الفقيد إلى مثواه الاخير بمقبرة الجلاز. وتعدّ جنازة الرئيس الراحل قائد السبسي جنازة تاريخية باعتبارها أول جنازة تخرج من قصر قرطاج وتخص اول رئيس منتخب من شعبه في الجمهورية التونسية الثانية، في اول فترة حكم تخرج من مراحلها الانتقالية نحو مرحلتها المؤسساتية الديمقراطية. وكان الباجي قايد السبسي شخصية بارزة في تونس منذ بناء الدولة الوطنية الذي كان أحد بناتها، عقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956، إلى حين توليه منصب الرئاسة سنة 2014 في أول انتخابات رئاسية ديمقراطية ونزيهة تعرفها تونس، ليتوفى يوم 25 جويلية 2019 في اليوم الموافق لعيد الجمهورية.