أصبحت وسائل الإعلام خاصة في الدول الحديثة العهد بالحريات والثورات كارثة وطنية وأخلاقية كبرى ، فأمام غياب القوانين المنضمة للقطاع ركب التجار والسماسرة على المهنة واشترى المال الفاسد وأرباب الجريمة الذين أعتقتهم الثورة أسهم الإعلام وسوقوا لأنفسهم ومسحوا الدماء والإعراض العالقة بأيدهم في الصحف الصفراء والقنوات الماجورة وإذاعات السمسرة الرخيصة وحاولوا بكل قوتهم الإجهاز على الثورات والعودة الى مربع الدكتاتورية المرتبطة بهم وبمصالحهم . في تونس كما في مصر ومنذ شرارة الثورة الأولى رأينا زبانية بن علي ومبارك و"قوادة" التجمع والحزب الوطني يستعملون كل ما في وسعهم من اجل طمس بريق الربيع العربي والإجهاز على حلم الشعوب ، وواظب الإعلام هنا وهناك على تقديم منتوج ملوث متناقض يقطر خبثا ، رأينا بأم أعيننا عبر عدساتهم كيف يتحول الأبيض الى أسود والصالح الى طالح والحليم الى لئيم ، واستعملوا اكسسواراتهم لتحويل المناضل الى ساذج نهم جشع وحول المسحوق الإعلامي المسموم القاتل المجرم السفاح الى زعيم وطني ، ضحكوا في بلادنا وتندروا على المرزوقي القادم من مدرسة حقوق الإنسان و الذي يتكلم اربع لغات ويحاضر في الجامعات العالمية ويجري الحوارات المطولة مع كبار الصحافيين عبر العالم ، بينما انهمكوا في تمجيد المخلوع بن علي الذي لم يرتجل في حياته ربع خطاب والذي يتلعثم اذا تكلم بالدارجة التونسية وبلهجة أهل الساحل وبلكنة حمام سوسة فما بالك بخطابات العربية الفصحى والفرنسية والانجليزية .. إعلام تونس يشابه إعلام مصر الذي تحدث عن ارتفاع سعر قارورات الغاز في عهد مرسي حين بلغت 8 جنيهات أكثر مما تحدث عن عبور 73 وثورة 25 يناير ووصفوا مرسي بالطاغية الذي يريد تجويع شعبه ، هذا الإعلام لم ينتبه الى القارورة التي وصلت في عهد السيسي الى 50 جنيه ، من مرسي الى السيسي وفي ظرف وجيز تضاعف سعر الاسطوانة الى ما يقارب السبع مرات وما زال السيسي زعيم من ورق يقف على أعمدة الدجل الإعلامي وما زالت تسلم الأيادي تهز أعصاب الصفوف الطويلة المتزاحمة على اسطوانة غاز تساوي ربع مرتب غالبيتهم. في تونس أصبحت سنوات النضال الطويلة في قاموس إعلام الرمضاني معرة ، وأطلق هذا الإعلام على الحكومة الحالية اسم "حكومة السوابق" وقالوا بان الجبالي خريج سجون سلم الحكومة الى العريض خرج السجون ، وقالوا ان تونس مسكينة من خريج سجون الى خريج سجون ، وطالبوا بإبعاد أصحاب السوابق السجنية عن السلطة ومنحها لأصحاب السوابق الإدارية الذين كانوا تقمصوا مناصب عليا في الدولة وفي عهودها القريبة حتى يكون بمقدورهم تصريف شؤون المؤسسات التي غادروها للتو ، وقالوا ان الحكومة التي ينام وزير خارجيتها في نزل فخم ولا يذهب للنوم في وكالة هي أسوأ بكثير من حكومة يهيمن بفضلها "خو مرتو و راجل بنتو " على نصف ثروات البلاد ، ومن جملة ما قالوا ان الوزير الفلاني في عهد حكومة السجون كان يأكل الدجاج المصلي في احد المطاعم بينما الفيضانات تعم البلاد ، هذه الأقلام نفسها وهذه المنابر بعينها كانت تبارك وتهلل لكل دجاجة يبتلعها ، يسرطها ، يلهفها ، النمر الذي تعود ملكيته الى "راجل بنتو" ، وربما سمعناهم يقولون حين يلعق النمر شفاهه بلسانه معلنا استقرار الدجاجات الأربع في بطنه ، بالشفاء لنمر سيدي ، ولعلهم استعاروا عبارة أصدقائهم " مطرح مايسري يمري " . لا نطالب الإعلام الذي نشا وترعرع في كنف خطاب محفوف بالتزلف والتملق ان يغير من سلوكه بين ليلة ونهارها ، لكن على هذا الإعلام ان يبدي رغبة في الخروج من المستنقع والتخلص من أردان الجرائم التي شارك فيها بالتأجيج والتحريض والمباركة والتشفي ، فإعلام السيدة الأولى والدكتوراه الفخرية وحامي حمى الدين والوطن ، ويلوح بيده الشريفة، وصانع التغيير ، واستقبل صباح اليوم ، واشرف على حفل بهيج ، وأعطى توصياته ، وافتتح وكرم ووسم ودشن.. الإعلام الذي جبل على مثل هذه العبارات لا يمكن ان نفتح شهيتنا معه على التمني وأقصى ما نطالبه به ان يتصيد أخبار الطرائف والمحاكم والكلمات المتقاطعة والقلوب الحائرة ، ليأكل بها الخبز ويكف شره عن هذا الوطن. نصرالدين السويلمي