وجدت العديد من الكتابات و التحاليل و غيرها التي تتناول في الفترة الأخيرة الشأن التركي كما وجدت البعض قد انحاز هنا أو هناك و للأسف إمتلأت العديد من المواقع بأخبار متضاربة منها ماهو صحيح و الكثير منها في غير محله أو مجرد إشاعات. لذلك وجدت نفسي و بحكم العلاقات القريبة التي تربطني بأصحاب القرار و القوى النافذة من الجهتين سواء من جهة الجماعة أي جماعة فتح الله كولن وخاصة الشق النورسي و الشق الاقتصادي و جماعة الخدمات منها و من جهة أخرى مع قيادات و مستشاري حكومة العدالة و التنمية الحالية, أن أقدم بين يدي المهتمين بالشأن التركي التوصيف الدقيق لما يحدث الآن في تركيا كي نستفيد من هذه التجربة الغنية خلال المرحلة الراهنة و في مستقبل الايام ، و ثانيا لكي نستنتج بعض الدروس و نستخلص العبر من الواقع السياسي التركي إنها و لاشك واحدة من أصعب المعادلات السياسية و الإقليمية التي تمر بها الجمهورية التركية الحديثة اليوم و هذا بعد فترة زمنية تم فيها تحجيم دور القوى الخفية أو بالأحرى الدولة العميقة و المظلمة و المعروفة اصطلاحا باسم derin devlet*. و علينا أن نتحسس الواقع التركي اليوم في إطاره الجغرافي و السياسي و الأهم من كل ذلك الواقع الاقتصادي لذلك يتناول هذا البحث الأبعاد الثلاث للقرار السياسي التركي. 1- المقاربة الفكرية و المقاربة السياسية الإشكال القائم في تركيا اليوم ليست بالحديث ، بل يعود لما قبل 2001 و قد طفى على الساحة في العديد من المناسبات كان اكثرها وضوحا سنة 2006 و 2010, إلا أن الإعلام الذي استحوذ على حيز غير معهود في توجيه الساحة السياسية التركية خدمة لأجندات مختلفة, هو الذي جعل كل الأضواء مسلطة على جهتين معينتين دون غيرهما من الفاعلين على هذه الساحة المعقدة. السؤال المفصلي والذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف نجح حزب العدالة و التنمية خلال السنوات العشرة الأخيرة في التخلص من إخطبوط الدولة العميقة. في الحقيقة يعود الجزء الأكبر من تلك النجاحات في تفكيك الدولة العميقة وابطال مفعولها لمجهود جبار و كبير كانت الجماعة تسهر على انجازه و تستميت في تحقيقه و ذلك منذ أكثر من 60 سنة و قد أرتفع الايقاع بشكل كبيرمع الشيخ فتح الله كولون و توصياته المنهجية اللتي أسس لها. يكمن الإشكال في المنهجية المتبعة أساسا فالجماعة أصلا لا تمارس السياسة بل تقوم بأنشطة يطلق عليها "خدمات" وفي المقابل استطاع حزب العدالة و التنمية أن يطوع الإدارة و يؤتمن على الدولة و أن يقدم نموذجا من أفضل نماذج الحكومات الناجحة في العالم خلال العشرية الأخيرة, ولم يكن لأردوغان ولا لحزبه القدرة على تحقيق هذا الزخم من النجاحات لو لا مساندة الجماعة ، و أشير هنا أنه منذ البداية وحين تمكن الحزب من النجاح وكان رئيسه آنذاك عبد الله غول قدمت الجماعة خيرة كوادرها كمستشارين ثم كقيادات إدارية عالية المستوى. العديد من الاتهامات وجهت الى الجماعة تصفها بالانتهازية و الإنبطاح و أن لها تحالفات سابقة من هنا وهناك خلال بروز حزب السلامة و الرفاه وأربكان رحمه الله ,سواءا مع حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي أو غيره وقد اطلعت شخصيا قبل يومين على اخبار تفيد بوجود علاقة ما بين فتح الله كولن و عائلة علي كوج *** وهو من أكبر رؤوس الأموال و هنالك بعض النشريات تصنف عائلة كوج المتحكمة إقتصاديا في أكثر من 100 شركة عبر العالم ,في خانة "يهود الدونمة" اللذين أعتنقوا الإسلام واندسوا في مفاصل الإقتصاد التركي منذ وصول أتاتورك للسلطة و سيتم تناول المسألة الاقتصادية و المؤثرين فيها لاحقا; وقد الموضوع المشار اليه عبارة عن مناقصة لمنجم ذهبي بأوغندا ومن الحسن الحظ أن عملي في مجال المناجم والمعادن يسر لي أن أتقصى أكثر حول خفايا هذه الصفقة والمعلومات التي تعمد إعلام الطرف الثالث اخفائها. الوقائع مخالفة تماما لهذ إلا أنه يصعب على أللذي يرى الأشياء بعين واحدة ومن زاوية ضيقة ان يهتدي الى الحقيقة. إضافة الى أن أكبر الاستثمارات للمعلومات المتظاربة تمت بنجاح في عالمنا العربي ، فعندنا لازال الهائمون ينتظرون الزعيم الملهم والقائد المنقذ عوضا عن الاشتغال بالتنمية و تقديم البديل المجتمعي النموذجي المتطور و المأمول وللأسف يتناسى الكثير في عالمنا العربي أن النهضة والارتقاء و النجاح في عالم اليوم لم تعد من خصائص الزعيم و القائد والربان إنما هي من خصائص الشعوب والمجتمعات. مربط الفرس و الخلاف هو المنهج العملي السياسي, لقد انشق الطريق الواحد الى طريقين كما انفصل المسلك العملي رويدا رويدا الى مسلكين بعدما كانت العلاقة علاقة تلازم بين المسار الفكري و السياسي. لقد أصبح الحزب بقيادة أردوغان يتجاوز نسبة المخاطرة والمجازفة المتفق عليها في العديد من القرارات في حين يدعو منهج الجماعة الى تقليص مستوى المخاطر في القرارات الى ادنى المستويات الممكنة ، ويرى البعض في هذا حكمة وحنكة بينما يراها البعض الآخر انعدام للشجاعة والاقدام, الا أن هذه الرغبة في الانجاز بسرعة التي برزت في سياسية اردوغان تراها الجماعة تجاوزا كبير للمنهج العام . فعلى سبيل المثال تعتبر الجماعة أن قرارات مثل سفينة مرمرة و بعيدا عن المقصد و النية و المغزى من ارسالها هي مجازفة في نهاية المطاف تجعل من تركيا و حزب العدالة مقصدا للعدو وفي مرمى سهامه وحركة زائدة يستعدي بها اردوغان محيطه ولن ينفع بها غيره بالشكل المامول , لذلك كان الاحرى في نظر الجماعة أن لا يقع اردوغان في فخ المواجهة مع العدو بهذه السذاجة, بل كان أجدى لو طلب من الاحتلال مرور المساعدات و قد يقبل ذلك ، او الالتجاء الى طرق سرية اخرى لايصال المساعدات, وهذا من النماذج المبسطة للمقاربة الفكرية و المنهجية و اختلاف الرؤى ما بين حزب العدالة و التنمية و الجماعة. ——————————————– 2- المقاربة الأقتصادية ورد عن الأستاذ أحمذ كوندوز أستاذ التاريخ بالجامعة الاسلامية بروتردام هولاند أن "تركيا تعيش ازدهار اقتصادي لم يكن له مثيل منذ 200 سنة" إلا أن هذا النموذج الاقتصادي الذي لا يمكن مقارنته بما سلف يخفي في طياته العديد من نقاط الضعف اللتي يجب ان يقف عليها الباحث للتجربة التركية وصيرورتها. قبل حكومة العدالة والتنمية كان البنك المركزي التركي يقترض من التجار ويعطيهم فوائد ربوية لمدة محددة تصل في بعض الأحيان إلى الأسبوع فقط , وكان يعطيهم فوائد ربوية بلغت في بعض المناسبات ما نسبته 600% ولما جاءت حكومة العدالة والتنمية أوقفت هذا العبث , وأسست مركزا لواردات الدولة وأي وزارة تحتاج للمال تأخذ من صندوق هذا المركز وفق موازنة وتخطيط ودراسات دقيقة ، وتم توفير مبالغ مهولة وصلت إلى مليارات الدولارات , ونتيجة للسياسات الاقتصادية المدروسة والذكية تضاعفت الميزانية , حيث كانت ميزانية دولة تركيا حوالي 200 أو 220 مليار دولار سنويا فتضاعفت إلى حدود 800 مليار دولار في العام 2008م , ويؤكد بعض الخبراء أن الإسلاميين أستلموا الحكم والدولة مفلسة والآن أصبح الاقتصادي التركي أقوى إقتصاد بالمنطقة ومن أقوى الاقتصاديات في العالم واصبح فائض الميزانية يصل إلى أكثر من ثلاثمائة مليار دولار ، حتى لجأ البنك الدولي الى الاقتراض من تركيا. أما بالنسبة لسياسات الخوصصة الاقتصادية فقد مرت بمرونة وبأمانة و مسؤولية ما جعل النتائج ايجابية تأتي تباعا وساهمت الشركات الكبرى التي تمت خصخصتها في تحسين الجودة و نمو الإنتاج و بالتالي تأمين مواطن الشغل و ارتفاع مستوى المعيشة. إلا أن كل هذه الإيجابيات من وجهة نظر الجماعة ليست كفيلة بأن تجعل من الدول قوة إقتصادية إقليمية, لأن الاقتصاد التركي يعتمد أساسا على التصدير وليس على الإبتكار والإكتشافات العلمية ، لذلك كانت السياسة الخارجية التركية مع داوود أوغلو خلال المرحلة الأولى تعتمد على بناء علاقات مميزة مع دول الجوار و جمهوريات أسيا الوسطى اللتي يربطها تاريخ ثقافي عميق مع تركيا لفتح أسواق أوسع ومن هناك تصدير المنتوج التركي. ودخلت تركيا كاغلب دول العالم معترك العولمة من بابه الواسع ، وقد كانت و لازالت منفتحة اقتصاديا ما فتح لها أبواب استقطاب رؤوس الأموال ذات المخاطرة العالية Ventures Capitals و هذا النوع من الإستثمار يعتبر أحد اشكال التمويل للمشاريع الريادية في أولى مراحل انشائها, والتي تتميز بكونها تمتلك فرصة نجاح ونمو عالية, وبنفس الوقت يتسم الاستثمار فيها بمخاطرة عالية وعادة ما تتجه شركات الإستثمار للدول الصاعدة مثل مجموعة البريكس BRICS** لاعتماد هذا النمط ، وهنا يكمن احد أهم الإشكاليات في الاقتصاد التركي حيث أمكن للقوى المالية العالمية على سبيل المثال سنة 2001 و سنة 2006 من ضخ أموال هائلة في البورصة التركية و شراء أسهم مهمة في عديد الشركات التي تمت خصخصتها ، لكن الخطة التي كانت تعتمدها على سبيل المثال عائلة علي كوج Ali Koç*** صاحبة النفوذ المالي الكبير في تركيا والذي تعود بدايات ثروتها إلى فترة وصول أتاتروك للسلطة و إعادة تقسيم الثروة خلال فترة القمع ومحاكم الاستقلال ثم تنامى نفوذها مع حزب الشعب الجمهوري خلافة لأتاتورك والمعروفة بعلاقاتها مع اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة و في فرنسا, هذه الخطة تتمثل في سحب الأموال من البنوك في توقيت معين مما يربك البنك المركزي أو يحدث خللا و عجزا ماليا ما يؤثر تباعا على جل بقية القطاعات الإقتصادية . فمثلا في سنة 2006 كانت هذه الخطة تسير بسلاسة لإرباك نمو الاقتصاد التركي وإعادته إلى ما كان عليه قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم, ولولا نفوذ الجماعة آنذاك داخل مؤسسات الدولة لما تمكنت حكومة أردوغان من الناحية المعلوماتية والمالية من توفير المبالغ المطلوبة من البنك المركزي قبل ساعة الصفر التي قرر ان تسحب فيها الاموال بشكل مكثف ومتزامن ، ما مكن الدولة من النجاح و تحقيق الإستمرارية المالية بكل سلاسة وبدون إرباك, كان هذا بمعية جماعة فتح الله كولن في كل القطاعات من ابتداءا بالاستعلامات ووصولا إلى رؤوس الأموال والصناعيين. 3- الطرف الثالث و المقاربة الإقليمية الحقيقة أن الطرف الثالث يلعب دور جلي في زرع الفتنة, فكلا الطرفين مستهدف و الطرف الثالث يتقن جيدا اختراق كلا الفريقين وهو بصدد النجاح في مشروعه فرجل الأعمال الأذاري و القادم من ايران و المتحصل على الجنسية التركية "رضا ضراب" هو نموذج من نماذج الاختراقات البينية ، وقد نجح اردوغان في امتصاصا بعض هذه المؤامرات حين تمكن و لأول مرة من تنصيب أهم رجالاته وهو هاكان فيدان Hakan Fidan****على رأس المخابرات العامة التركية MIT والذي تم ذكره لأول مرة في جريدة النيورك تايمز بالاسم و الصورة و كان ذلك في مقال لشهر نوفمبر 2013 متحدثين عن من يقف وراء تفادي الاستخبارات التركية للهزات الاقتصادية المتتابعة و دور هذا الرجل في ذلك. من البديهي أن يكون هنالك تدخل اقليمي من جهات مختلفة و متباينة فيما بينها على غرار ايران دفاعا عن المصالح الاقليمية في سوريا و مصالح روسيا و الصين من جهة و الامارات العربية المتحدة التي تمثل الشق العربي اللذي يتوجس خوفا من الربيع العربي ويريد ابعاد تركيا عن هذه الدول واشغالها في بمشاكلها الداخلية. الكيان الصهيوني كلاعب جوهري ليس بمنئى عن كل هذا وتجد "إسرائيل" نفسها محصنة حيث أن الجوار الإقليمي كله يعمل على إخماد تجربة الجمهورية التركية و على افشال برنامج حزب العدالة و التنمية التركية ل2023 و الذي من شأنه ان يجعل من تركيا سادس أكبر اقتصاد في العالم. أذكر بأن فشل التجربة التركية لن يِؤثر على حزب العدالة و التنمية فحسب بل على الجماعة و ما حققته من إنجازات خلال حكم العدالة و التنمية بقيادة أردوغان, و هو ما من شأنه أن يؤثر اقتصديا ليس عى تركيا فحسب بل على اقتصاديات دول أخرى خاصة ألمانيا, حيث أن تركيا تمتلك احتياطي كبير من الذهب والمعادن والطاقة المنجمية إظافة الى طريق آمن لمرور البترول من كردستان العراق فعلى سبيل المثال وكردّة فعل لأردوغان على الجماعة قام الأخير بتجميد أموال مجموعة كوزا قولد Koza Gold لإستخارج الذهب فحصلت أزمة في سعر الذهب و كان لذلك إنعكاسات سلبية خاصة عند الشركات المتعاقدة و المصدرة للتكنولوجيا و تقنيات استخراج الموارد الطبيعية و اللتي لازالت محتكرة من الدول الصناعية الكبرى و هو ما تعتبره الجماعة سببا لكبت جماح طموح أردوغان حيث أنهم يعتبرون أنه و رغم كل الإصلاحات و النتائج الاقتصادية الباهرة فتركيا لازالت غير متحكمة في التقنية لذلك فالطريق لازال طويل امامها كي تدخل في مغامرات قد تعيدها إلى نقطة الصفر, و كردّة فعل معاكسة نشرت بعض الجرائد الموالية للجماعة مواضيع تتعلق بصفقات مشبوهة لمجموعة جنكيز قروب Cengiz Group وهو من كبار الصناعيين الأتراك الداعم لأردوغان. كان الهدف من تقديم هذا التقرير هو تحليل العلاقات التي تتحكم في السياسة التركية في العشرية الأخيرة و كذلك الاستفادة من هذه التجربة الناشئة و من الدروس التي قد تفيدنا كعالم عربي و خاصة دول الربيع العربي التي تسعى جاهدة للحرية و التحرر في القرار السيادي و النمو الاقتصادي . *http://www.boell.de/en/navigation/europe-north-america-tracing-the-deep-space-perspectives-turkey-15108.html **Harold James "The Rise of the BRICs And the new logic in international , 2000 "politics ***http://alikincal.wordpress.com **** http://www.hurriyet.com.tr/planet/24892554.asp د . أيمن القاطري مؤسسة جسر تونس قسم الدراسات و البحوث