أخبار تونس- رغم امتداد الأزمة الاقتصادية إلى كافة أصقاع العالم وضربها لاقتصاديات الدول الكبرى المؤثرة واقتصاديات الدول النامية والفقيرة على حد سواء فإن تونس كانت في منأى عن تداعيات هذه الأزمة وذلك بفضل خيارات اقتصادية رائدة استفادت من التجارب التنموية السابقة التي عاشتها البلاد وتأقلمت مع كل المستجدات التي شهدتها الساحة العالمية. فقد تم وضع أولى لبنات الاقتصاد التونسي عقب الاستقلال كما وقع تعديل مسار السياسة الاقتصادية في فترة السبعينات والثمانينات عبر إيقاف تجربة التعاضد وبداية فتح المجال أمام القطاع الخاص وانتهاج سياسة مرحلية حمائية للحفاظ على الصناعة المحلية من المزاحمة الخارجية. ومثلت سنة 1987 سنة مفصلية في الاقتصاد التونسي وهي السنة التي شهدت انطلاق برامج التعديل والإصلاح الهيكلي الشامل للاقتصاد فتحولت الفترة اللاحقة إلى فترة “إنقاذ” واسترجاع التوازنات التي اختلت في منتصف الثمانينات لتتحول تونس بعد ذلك إلى الجيل الثاني من الإصلاح عبر تأهيل قطاعات الصناعة والفلاحة والخدمات. وقد أمضت تونس اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كأول بلد في الضفة الجنوبية للمتوسط ودخلت منذ جانفي 2008 في فضاء التبادل الحر وقد بينت التجربة أن خيار الانفتاح الاقتصادي كان قرارا صائبا ساهم في تطور الصادرات من الناتج المحلي الداخلي من 34.7 بالمائة سنة 1986 إلى 61 بالمائة سنة 2008 إضافة إلى تطور الاستثمار الأجنبي في البلاد من 99 مليون دينار سنة 1986 إلى 3602.2 سنة 2008 . ورغم أن تونس قد تمكنت من تجاوز مخلفات الأزمة المالية العالمية إلا أن ذلك لم يمنعها من اتخاذ إجراءات وقائية لعل أبرزها اللجنة التي أذن الرئيس زين العابدين بن علي بإحداثها لمتابعة الظرف الاقتصادي والمالي العالمي الراهن. وتضم هذه اللجنة وزراء المالية والتنمية والتعاون الدولي والصناعة والطاقة والمؤسسات الصغرى إلى جانب محافظ البنك المركزي التونسي وعددا من الخبراء الاقتصاديين في مختلف المجالات، وتتولى هذه اللجنة، التي تجتمع دوريا، إلى متابعة الأزمة واقتراح الحلول الكفيلة بالتوقي من التأثيرات السلبية للمستجدات العالمية على الاقتصاد الوطني. ويأتي هذا القرار الرئاسي في إطار تمشي اعتمدته تونس في التعاطي مع متغيرات الظرف الاقتصادي العالمي حيث بادرت الهيئات المعنية منذ اندلاع الأزمة المالية إلى اتخاذ جملة من الإجراءات سواء على مستوى التصرف في المدخرات من العملة الصعبة في البلاد أو على مستوى تنظيم وإسناد القروض. ولهذا فرغم شدة الأزمة إلا أن ذلك لم يؤثر على القطاعات الحيوية كالسياحة التي حققت نموا في العائدات. ويعتمد المنوال الاقتصادي التونسي على رؤية اقتصادية اختارت تحررية اقتصادية متضامنة، توائم بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي وتقرن النمو بالتنمية، وهو مشروع مجتمعي حرص الرئيس بن علي على إرساء دعائمه منذ أن تولى رئاسة الدولة سنة 1987. فقد اتجهت القيادة السياسية إلى تبني منهج اقتصادي ليبرالي متحرر منفتح على الاقتصاديات الأجنبية من ناحية وهو اقتصاد يضفي بعدا إنسانيا اجتماعيا تكافليا على المنظومة الإنتاجية من ناحية أخرى. وترى دوائر اقتصادية أن من أبرز ميزات الاقتصاد التونسي تعويله على الموارد البشرية أو ما يعرف ب”الرأسمال البشري” وذلك اعتبارا لدور الكفاءات والمهارات والخبرات في تركيز دعائم اقتصاد المعرفة والاقتصاد اللامادي فضلا عن تحقيق نسب نمو مرتفعة والاندماج في الدورة الاقتصادية العالمية. كما يتميز المنوال التونسي باعتماه على التنمية الجهوية كعامل لدفع النمو وضمان الرقي الاجتماعي إذ أصبحت الجهات منذ التحول ركنا ثابتا في سياسة البلاد التنموية حيث تم إحداث الأقطاب التكنولوجية والفضاءات الجامعية والتجهيزات الجماعية بكل ولايات الجمهورية تقريبا. وقد حققت هذه السياسة نجاعة اقتصادية لعل من أبرز سماتها المحافظة على نسق نمو مرتفع بمعدل سنوي يناهز ال4.5 بالمائة إضافة إلى ترشيد الطلب والحفاظ على التوازن الدّاخلي كما تم تحسين القدرة التنافسية للمؤسسات وتعزيز قطاع الخدمات. كما تراجعت نسبة التضخم من 8 بالمائة سنة 1987 إلى 3 بالمائة سنة 2008 كذالك نسبة الدين التي تراجعت بدورها من 57.9 بالمائة إلى 46.1 بالمائة سنة 2008 مستفيدة من سياسة هيكلة الدين التي تسيطر فيها القروض طويلة الأمد. كما ساهمت هذه الرؤية الإستشرافية في تحسن جل مؤشرات التنمية الاجتماعية ومن ذلك ارتفاع واضح لمستوى دخل الفرد وتقلص نسبة الفقر إلى حدود 3% واتساع حجم الطبقة الوسطى إلى قرابة 80% من مجموع السكان. كما وصلت تونس إلى نسبة تغطية اجتماعية تقدر ب 83 بالمائة وهي نسبة لا تتوفر في بعض الدول المتقدمة كما أن أكثر من 80 بالمائة من الأسر التونسية تمتلك مساكن خاصة. ومن أبرز النتائج الدالة على سلامة وصواب هذه الخيارات الاقتصادية تواصل التقييمات الدولية التي تتوالى تباعا مبرهنة على صلابة الاقتصاد التونسي وقدرته على الصمود أمام الأزمات الخارجية وتجاوز تداعيات الأزمة المالية العالمية، ففي أحدث تقرير سنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس حول التنافسية الشاملة للاقتصاد 2009 -2010 جاءت تونس في المرتبة الأولى إفريقيا و40 عالميا من جملة 133 بلد شملها التصنيف. كما خصصت مجلة “نوفال اوبسرفاتور” عددها الأخير إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة وتطور الظرف الاقتصادي في كل دول العالم ، و تحدثت نشرية “الأطلس الاقتصادي 2010′′ عن نجاح تونس بفضل وضعيتها المالية السليمة من الخروج بسرعة من هذه الأزمة العالمية. حيث اعتبرت النشرية أن الصادرات والاستهلاك العائلي يمثلان أبرز محركات النمو الاقتصادي في تونس مذكرة بالعلاقات المميزة التي تجمع البلاد والاتحاد الأوروبي. وبينت مساهمة النمو الاقتصادي في رفع معدل الدخل الفردي إلى أكثر من 3900 دولار سنة 2008 ليقترب شيئا فشيئا من مستوى الدخل في البلدان المتطورة بحساب القدرة الشرائية. وتعد هذه النتائج والاعترافات المتعددة بأهمية هذا المجهود الوطني في جل التقييمات الدولية خير دليل على صواب الخيارات الاقتصادية التي ساهمت بدورها في ارساء بناء اجتماعي أساسه الوفاق والتضامن والتآزر.