المدن العظيمة لا تتسع لنا عادة كي نسكنها، بل هي التي تسكننا... وجعا... والاسابيع تمضي، والأخبار تلاحقنا مصرّة على أن مدينة الفلوجة محاصرة... ألا يعلم اولئك ان المدن العظيمة لا تحاصر... إنما المحاصر حقّا والاسير فعلا هو العالم بأسره... الفلوجة طليقة ونحن المحاصرون، الملاحقون بعار صمتنا المتواطئ، أو ربّما بتواطئنا الصامت! 1 يا فلوجة الزمان، يا مدينة المآذن والمساجد، يا رمز الشموخ والاباء، يا رافعة الرؤوس، يا ساقية الموت للغزاة، والحياة للأباة، يا قبسا من نور، يا مزيجا من العطر والدم... يا زهرة ما ذبلت يوما وما استكانت لاقدام دائسيها. يا موقظة العزائم في مواجهة «العزيمة اليقظة»()... دموعنا ما عادت تكفي، عبراتنا لا لون لها ولا تاريخ... فكم يلزمنا من الدماء لنكتبك مدينة فوق كل المدن، وقلعة نضال اعلى من النسيان؟ 2 حين حاصرت جيوش هتلر الجرارة، وهي في عنفوانها، مدينة ستالينغراد السوفياتية، لم تقو على مجالدة الجليد ولا على مقارعة «الجيش الاحمر» فاندحرت، برغم عظمة هتلر وجنونه... وصارت ستالينغراد منذ ذلك الحين مضربا للامثال في الصمود. ولئن واجهت جيوش هتلر واحدا من أقوى الجيوش في العالم انذاك، الجيش الاحمر السوفياتي، فإن قوات «المارينز» الامريكية اليوم تواجه مدينة لا تملك من الاحمرار سوى دماء اهاليها، ولا تملك من الاسلحة سوى ايمانها بتحرير العراق، ولا من الايديولوجيات سوى ثقافة «كره» المحتل الغاصب، المعتدي على الارض والعرض، ولا من أدوات المقارعة سوى شعور بنخوة عربية وبحمية عشائرية وبعزة وكرامة في العيش لا تقاومها صواريخ ولا دبابات ولا طائرات ولا حاملات الطائرات حتى! وثمّة تكمن عظمتها. 3 ... ومن ستالينغراد الى أيام الفلوجة هذه ظلّت اللازمة اللغوية (Suffixe) «غراد» تلزم كل المدن الصامدة وتلاحقها، وتلتصق بها حتى دون استئذان... وليس آخرها «الفلوجغراد» ولا»جنينغراد» التي علا شأنها وذاع صيتها منذ عامين ذات جنون شاروني... فكم يلزمنا من «الغرادات» كي ندرك ان هذه الأمة التي خيرت شتى صروف الدهر وعرفت اهواله مازالت قادرة على انجاب «فلوجة»... كل يوم! 4 الطائرات لا تكفّ عن القصف وأزيز المدافع يصم الاذان والفلوجة هجرتها الاف العائلات... ورابطت فيها عشرات الآلاف من العائلات أيضا... المستشفيات ما عادت تقوى على استقبال الجرحى، والمرضى... والادوية قليلة، قليلة، لا تسمن ولا تشفي من جرح... جرحهم أعمق من أن يُداوى بالمضادات الحيوية في وقت فقد «المضادات القومية»! وكما الأمهات الفلسطينيات يضعن على الحواجز، فيتخذ المولود من اسم ذاك الحاجز اسما له يلازمه كظلّه كقسمات وجهه، يجيء المخاض لاحدى الأمهات «الفلوجيات» في مكان ما من المدينة على مرمى وجع من طلقات آلة الحرب الامريكية... على مسمع من مدافعهم الجبانة الرابضة خارج المدينة... تصرخ المرأة، تتألّم... صبرا... المدن العظيمة، وكذا الأجنة التي تنشأ في أرحام نسائها مؤلم مخاضها... عسيرة ولادتها... وتعلو الزغاريد أخيرا فوق أصوات كل المدافع... قد وضعتها أنثى، واختارت لها من الاسماء... «فلوجة»! 5 طفل يرتجفت، وقد اربدّت سماء المدينة، والقصف صار اعنف، و... جنود «المارينز» صاروا اكثر غباء، واندهاشا لهذا الصمود، الأم تضم صغيرها اليها «لا تخف يا ولدي، لن يدخلوا، انهم اجبن من ذلك»... يجيب الطفل ببراءة «هل سيلتزمون اذن بالهدنة الموقعة مع شيوخ العشائر ووجهاء المدينة؟»... وتردّ الأم بابتسامة مريرة «شيوخنا لا يهادنون المحتل يا ولدي، قد رضعوا المقاومة في حليب أمهاتهم، وبها نموا وكبرُوا وايانا واياكم علمّوها، أما الاعداد يا صغيري فخساراتهم بلغت حدا لا يطاق... بماذا سيواجهون شعوبهم بغير نصرهم المزعوم، المفبرك صورا وكلمات تنضح كذبا من قادتهم العسكريين و»المدنيين» وبغير مفهوم الهدنة الذي ينطوي على تسليم ضمني بالهزيمة، لكنهم يوظفونه اعلاميا لستر عوراتهم... وقديما قيل «التاريخ يكتبه المنتصرون» أما اليوم فالاعلام يصنعه... «المنهزمون»! 6 ... وتمضي الساعات ثقيلة، الظلام جاثم على المدينة كأن لا نهاية له... طلقات متقطعة تكسر صمت المدينة من حين لآخر، حتى إذا كان الصباح انهمك الاهالي في البحث عما تبقى من القصف المجنون، نبشوا بفؤوسهم ومعاولهم في ما تركه الدمار الحاقد... وسيارات الاسعاف صافراتها تمزق الاسماع، تقف على أحد الحواجز... ومستشفيات الفلوجة ضاقت بمن فيها، ومقابرها ناءت بحملها، ما عادت ارضها تتسع لجثث الشهداء المتكدّسة... وأطفال الفلوجة جاعوا... حتى شبعوا جوعا! وتعرّوا وشرّدوا تشريدا... لا رغيف يؤكل، لا رصيف يؤوي رؤوسهم الصغيرة... لا نجم يضيء عتمتهم، لا حلم يؤثث لياليهم الطويلة... وجنود «المارينز» مازالوا رابضين خارج المدينة... لن يدخلوا حتما... إنها الفلوجة، ما قصدها قاصد بسوء الا وأصابه «الفالج» ونكص على عقبيه مذموما مدحورا! 7 «هنا، عند منحدرات التلال امام الغروب وفوهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل، نربّي الامل... بلاد على أهبة الفجر، صرنا أقل ذكاء لأننا نحملق في ساعة النصر: لا ليل في ليلنا المتلالئ بالمدفعية أعداؤنا يسهرون، وأعداونا يشعلون لنا النور... في حلكة الاقبية»(**) ،،، وأعداء العراق المبشرون بالديمقراطية المزعومة صاحوا واستغاثوا... وسلموا اخيرا أن «لا قبل لنا بالفلوجة وأسودها»! ... 1000 للمرّة الالف اكرّر ان في هذه الامة ألف مدينة «مؤهلة» للصمود والمواجهة حتى الفناء او الافناء، في كل مدينة ألف مشروع شهادة، في كل مشروع ألف نور يضيء، في كل موضوع نور ألف أمل للنصر... ولولا هذه المدن لصارت الامة الى فناء... وانما هي بفضلها تحيا وب «بركتها» تظل على قيد الصمود... فكم يلزمنا من الكلمات لنقول ان «على هذه الارض ما يستحق الحياة»! * تسمية العملية العسكرية الامريكية على مدينة الفلوجة ** من قصيد «حالة حصار» لمحمود درويش