ترك الشابي أثرا بعيدا في الشعرية العربية الحديثة لا يمكن إنكاره. وفي سياق هذه الشعرية يمكن أن نقرأه حقا، فلم تكن للشابي صلة تذكر بالشعر التونسي في الثلث الأول من القرن الماضي، وإنما علاقات بأفراد يقاسمونه رؤيته بنسبة أو بأخرى. وأقربهم إليه وهو محمد الحليوي كان مثقفا أو ناقدا جرّب الشعر، ولكنه سرعان ما انقطع عنه، ولعلّه أدرك أنّه فنّ صعب ليس بميسور واحد مثله أنه يطاول فيه الشابي او يجاذبه مكانته الشعرية. كان الشابي إذن شاعرا عربيا بالمعنى الثقافي العميق للكلمة، وليس بالمعنى السياسي او القومي الذي لم يكن يعنيه في شيء. وخير دليل لذلك أعماله الشعرية والنثرية. فكتابه «أغاني الحياة»، وأنا أصرّ على كلمة «كتاب» بدل «ديوان»، عمل شعريّ يقوم على علاقة حميمة بين الرؤية والتصوّر، وليس مجرّد قصائد متناثرة لا رابط بينها كما هو الشأن في اكثر مجاميع الشعر عندنا. والانتقال من القصيدة الى «العمل» الشعري، هو في ما يقرّره المعاصرون = وفي كلامهم مقدار كبير من الصواب = أحد اظهر ابدالات الحداثة وملامحها. وليست الحداثة مفهوما كما يقع في ظن كثير او قليل منّا، بل ليس لها قوانين ولا نظريّة إذ لو كانت كذلك لأصبح بامكان أي منا أن يكون حديثا بمجرد الاحتكام الى جملة من القواعد والأحكام او القوانين. وتاريخ الفن يعلّمنا أن الاحتكام الى نظرية لا ينجم عنه سوى «الغرق في الفن الميكانيكي» إنما الحداثة سمات وملامح ومنطق. وإدخال الشابي أدرك هذا الجانب بكثير من الوضوح. ولذلك ربط تجربته بالتجارب الشعرية الرائدة في عصره... تجربة شعراء المهجر وجبران تحديدا، على حين ظل معاصروه من التونسيين يكتبون بلغة «نيئة» لم تمسسها نار العصر. ولعل كتابه «الخيال الشعري عند العرب» يضمر ردّا على هؤلاء الذين تعقّلوا الشعر تعقّل العقول المنتظمة بحسب المتعارف أو المأثور في نظريّة العمود الشعري. ربّما لم يكن الشابي جريئا، فلم يذكرهم بالاسماء، ولكن يكاد لا يساورني شك في أنه كان يعنيهم. وممّا يؤكّد ذلك نص آخر للشابي قلّما تنبّه إليه الدارسون وهو محاضرته عن «شعراء المغرب الاقصى» التي أعدّها على ضوء قراءته لكتاب محمد بلعبّاس القباج «الأدب العربي في المغرب الاقصى» الصادر عام 1929، فقد أشاح الشابي عن تقديم الجزء الاول من هذا الكتاب المخصوص ب «طائفة من شيوخ المغرب الاقصى»، وكأنه كان يشيح عن شيوخ الشعر التونسيين في عصره، لأنه كان ينشد «العظمة الشعرية المنتجة التي لا ترضى بغير العالم مقعدا وبغير الانسانية اتباعا» بعبارته. وكتب «سأتحدّث عن هذا الجزء الثاني من الكتاب، هذا الجزء الذي لا يفيض الا بنزعات الشبيبة وأحلامها، هذا الجزء الذي يمثّل لنا الحياة المغربية الحاضرة بما لها من مطامح وآمال ورغبات ونوازع، هذا الجزء الذي لا يضمّ الا اشعار الشباب المغربي الطموح: هو الذي أريد أن أتكلّم عنه الليلة بما استطيع لان أغاني الشباب وأحلامه هي عنوان حياة الشعوب». ويتعزّز انطباعي أكثر عندما أعود الى مذكّرات الشابي، فقد حاول ان يكون فاعلا في المشهد الثقافي التونسي، لكنه سرعان ما أدرك «مصيبة المشاريع التونسية» بعبارته اذ «يندفع القائمون بها في العمل اندفاعا كلّه شغف وشوق واخلاص، ولكنه لا يدوم. فإنه لا يلبث الا قليلا حتى يخبو أواره، وتركد ريحه، وينصدع شمل الجميع...» وأظن أن حياتنا الثقافية لا تزال تعاني الكثير مما ذكره الشابي، فقد تأسست لدينا، منذ الاستقلال، دور الثقافة والنشر والنوادي والمهرجانات والجمعيات... ولكنها وهذه حقيقة ينبغي أن نصدع بها «واجهات اكثر منها مشاريع ثقافية متكاملة. وليس أدلّ على ذلك من أن الشابي استطاع بمفرده ان ينقل نصّه الى أفق المشهد الثقافي العربي، على حين لا نزال نحن رغم كل هذه المشاريع واقفين على تخومه. حقا تبقى من الشابي أسئلته الحارقة... ومنها أتعلّم شخصيا كيف تنعقد الاصرة بين «اللهب» او النظام الصادر عن فوضى الاشياء و»البلور» أو النظام المنظم ذاتيا... فربما كان هذا هو الميزان الذي حفظ لشعر الشابي شعريّته! ربّما!