كم هي الثقافات الذي تحسن تدمير الذات؟ كم هي الثقافات التي تجيد كل فنون سحق الكينونة منذ الصرخة الاولى لحلول موكب الجنين؟ كم هي كثيرة تلك القيم التي تعلمنا اخراس صوت الجسد، صوت الحب، صوت الروح التي تشتعل سنابيل هشيمها أو لعلنا في هذا السياق تحديدا نستوعب جيّدا لماذا رؤوف بن يغلان يسأل بكل عنف في مسرحيته «آش يقولولو» أعبر أم لا أعبّر؟ هل لي ان اعبّر؟ بماذا سأعبّر؟ كيف سأعبّر؟ متى سأعبّر؟ وكم كان بن يغلان يعبّر وهو لا يعبّر فالكلمة تعبّر والحركة تعبّر والاشارة تعبّر والصمت كذلك يعبّر. ان شعر العيون اكثر تعبيرا من كل معاجم الانظمة الدلالية وموسوعاتها. نعم لقد كانت شموع جسد بن يغلان تشتعل تناغما مع فوانيس الحمامات خلال عرض لفائدة الاطباء لتترجم دكتاتورية ثقافة اللاحب وما أبشع القلب الذي لا يستحم بندى الشعور... ما افظع اللحظة التي تمر دون ان يردد فيها رخيم الفؤاد نشيد العشق. كذا هو «رؤوف بن يغلان» طفا على ركح قاعة «حنبعل» بياسمين الحمامات امام نخبة من الاطباء والصيادلة وصفوة الجمهور متهكما مستهترا عنيفا متعتعا، مزعزعا لكل المفاهيم التي تعلمنا الخجل من حشرجات الروح، مما يجيش حيث اغوارنا، حيث غياهبنا التي هي نحن ونحن هي... فمتى يستقيم الوجود الانساني دون الانصات بكل قداسة الى نداء الروح؟ وكيف تزول العتمة إن لم تشتعل شموع الفئيد؟ قد نكون هنا على صواب لو قلنا بأن رووف بن يغلان «أراد أن يقول من وراء اثارة هذا المحظور كم أنت شقي أيها الانسان ان لم تزح عنك ثوب الحياء من جسدك؟ ان لم تنعتق من سجن اخلاق «الرياء الديبلوماسي» حسب العبارة الفرويدية...». وهنا تكون مسرحية «آش يقولولو» دعوة الى ثقافة الحب وبالتالي التصالح مع النفس خاصة وانها قد أثبتت قدرتها على الاستجابة لأذواق متعددة: النخبة التي تشدّد على الاعمال العميقة التي تثير الاشكالات الرئيسية وايضا الجمهور العريض الذي وان ينشد المتعة والانتشاء يريد الفنان الذي يحترمه والذي يثير مشاكله الحقيقية خاصة وأنه ملّ فنون التهريج التي تفتعل الاضحاك المبتذل. كما يتطرّق رؤوف بن يغلان الى اشكالية الوصاية البطرياركية ليبيّن كيف ان الطفل اعتاد عدم التعبير لذلك لم يعد بامكانه التجاسر على ذلك وهذا ما تعبّر عنه «انسيكولوبيديا التحليل النفسي» بالاخصاء La castration الذي يفرز لاحقا الشخصية المدجّنة التي لا يمكن لها الانخراط السوي في نسيجها الاجتماعي بل لا يمكن لها الانخراط في نسيجها الشخصي، فهي الى جانب اغترابها في علاقة بمحيطها الاجتماعي، تعاني من الاغتراب في علاقة بمحيطها الشخصي وتحديدا الحميمي منه، وغالبا ما تنتهي هذه الذات «طيّعة وديعة» استنادا الى فلسفة «ميشال فوكو». وكم نحن بحاجة الى نصوص فنية هادفة وجريئة من أجل استنطاق المسكوت عنه لأن ثقافة بلا فن جسور كالجسد المشلول. أما روح الاستقالة فقد عالجتها المسرحية من خلال ابراز سلبية الكيان الذي شكلته حاضنة اللاتعبير من حيث ان هذا الكيان غالبا ما يتفطّن الى أنه مقاصد لا متناهية ومع ذلك فهو لا يعبّر الا انه يسلّم بقدره ولا يُدرك بالدقّة لماذا سلّم بذلك؟ أحيانا يُقنع نفسه بأنه لا يريد ان يفهم مفضّلا وسادة الكسل تارة يُرجع ذلك الى عدم جدوى الفهم منتهيا عبثيا طورا يُعلن بأنه على وعي بأنه على غير وعي مكرّسا الاستقالة في أجمل ثوبها أحيانا يؤكد بأنه إن فهم لا يُفهم مُعلنا رغبته في اللاجتماعية في بعض الأطوار الاخرى يؤكد على ان الاكثر فهما هو الذي لا يكترث كي لا يُعمّق جراحه إلخ... لنستشف من خلال ما تقدّم الاختلاف بين العمل الفني الارتجالي التهريجي والأعمال التي تتأسس اكاديميا. فلولا امتلاك بن يغلان هذه الخلفية الاكاديمية لما تمكّن من الابحار في مياه «المسكوت عنه» ولولا روح التجاسر التي يتفرد بها الفنان الصادق لما غامر بارسال سفنه الى الاقاليم المحظورة. خاصة المتعلقة ببعض المقدسات القيمية وما علينا في هذا الاطار الا استحضار «ماركوز» وهو يردد شعاره الشهير «إن الفن الصادق يجعل ا لعالم المتحجر متكلما» وكذا فعل «رؤوف بن يغلان» الذي أرغم المتكلس لدينا والصامت فينا والنائم داخلنا والمدجّن لدينا. لقد أرغم هذه الفعاليات جميعا على الانتفاضة مخلصا إيّانا من الاحباط وفنون الدّجل، ولعل ذلك ما جعل عديدا من الاطارات والمؤسسات التربوية والهياكل الصحية والمرجعيات الجامعية والمؤسسات الوطنية تتفاعل ايجابيا مع مسرحية آش يقولولو نعبّر وإلا ما نعبّرش وترغب في برمجتها. وهذا ما تجلّى أخيرا بشكل خصوصي من خلال عرضين مع منظمة التربية والاسرة بالمنستير وبنزرت واللذين التقى خلالهما بن يغلان بجمهور كبير من التلاميذ والطلبة والأولياء وكذلك ثلة من رجال التعليم من معلّمين وأساتذة. وثقتنا كبرى في بن يغلان كي تكون اعماله القادمة امتدادا طبيعيا لهذه النصوص الجريئة لأن الفن مسؤولية لا حيلة الاضحاك وتهميش المتلقي بحجّة ضرورة جماهيرية الاعمال. عزالدين العامري