تشكل مدينة رفح التي تقع على بعد 38 كلم جنوبي مدينة غزة، القابعة على ثغر البحر المتوسط منذ خمسة قرون حلقة اتصال ما بين بلدان المشرق العربي والبلدان الافريقية، وقد قسّمت المدينة عام 1979 طبقا لمعاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني الى رفح المصرية ورفح الفلسطينية والتي تمتد على مساحة 40 كلم2 بطول 8 كلم وعرض 5 كلم، والتي أقام الاحتلال أربع مستوطنات يهودية على أجواد أراضيها. ويبلغ سكانها مع مخيمات اللاجئين نحو 150 ألف نسمة، ويتعرض هؤلاء اليوم كما تعرضوا بالامس القريب الى عديد الاجتياحات والتدمير، بحجة تدمير المنازل المحاذية للشريط الحدودي التي يتعبرونها محطات لانفاق تحت الارض لامداد المقاومة بالسلاح والعتاد وهي ليست المرة الاولى التي يهجر أهالي مخيم بدر «تل السلطان» وتدمر منازلهم، لقد هجروا في المرة الاولى عام 1948 من أراضيهم ليقيموا في مخيم على الشريط الحدودي، وهجّروا للمرة الثانية في أوائل عام 1970 على يد الجزار شارون قائد المنطقة الجنوبية عندما هدم منازلهم وشق الشوارع في المخيم لتسهيل حركة قواته لمطاردة الفدائيين، وتحويل المنطقة الى حقل للتدريب والرماية، وبقي اللاجئون الفلسطينيون أشهرا يقيمون في خيام نصبتها لهم وكالة الغوث الى حين تم تشييد منازل لهم شرقي «تل السلطان» وها هو شارون يعيد جريمته من جديد بعد 34 عاما بتدمير المخيم من جديد وقتل المواطنين في حي السلام، والبرازيل، ومخيم تل السلطان الذي تحول الى تل من الشهداء والجرحى، علما انه لم يكن محاذيا للشريط الحدودي. لقد جنّ جنون قادة العدو بتدمير آلياته العسكرية ومقتل 13 جنديا على يد المقاومة الفلسطينية خلال 24 ساعة في النصف الاول من شهر ماي وتناثرت أشلاؤهم في حي الزيتون بغزة وعلى محور فيلادلفيا الفاصل ما بين الحدود المصرية وقطاع غزة الذي يعتبر من أكثر مناطق المواجهات سخونة، الامر الذي دعا موفاز الى التوجه الى مقر قيادة القوات المحتلة في قطاع غزة للاطلاع على أرض الواقع، وقد أشار ضباطه في هذا اللقاء الى توسيع محور فيلادلفيا البالغ طوله 9 كلم بعرض 1000م وحفر خندق بعمق 20م وعرض 60م وهدم المنازل المحاذية للشريط الحدودي لمنع توصيل السلاح للمقاومة، وعلى إثرها تقدمت 13 عائلة من سكان رفح بطلب التماس الى ما يسمى بمحكمة العدل العليا للكيان الصهيوني يطالبون بوقف هدم منازلهم، والتي قضت المحكمة بوقف الهدم احترازيا، إلا أن جيش الاحتلال استمر في جريمة هدم المنازل وقتل المواطنين بدواعي أمنية، وعاد في منتصف ليل الاثنين بتاريخ 2004/5/17 الى رفح من معبر سوفا بعد أن لملم أشلاء قتلاه مصطحبا معه المدرعات والبلدوزرات والجرافات الثقيلة المصفحة، وعزل رفح عن باقي القطاع، واندفعت قواته الى مخيم تل السلطان في عملية هجومية واسعة النطاق بحماية طائرات الاباتشي وهي الاخطر والاشد إيلاما، وغير مسبوقة تحت اسم عملية «قوس قزح» بهدف هدم المنازل، وتوسيع محور فيلادلفيا، وإرهاب المواطنين وتشريدهم، ومنع حفر «الانفاق» واعتقال المقاومين، وتمشيط المنازل بحثا عن الاسلحة والمخارط والمناضلين، وهدم البنية التحتية في المدينة ومخيماتها. وعندما اشتد الحصار على مخيم تل السلطان، وارتفعت صيحات الاستغاثة من المخيم لمده بالماء والكهرباء والمؤن وتضميد جرحاه ودفن شهدائه، انطلقت مظاهرة من رفح الى تل السلطان لم تكن مسلحة بأسلحة دمار شامل، ولم تكن محمولة فوق دبابات ومجنزرات، إنما هي مظاهرة سلمية شعبية انطلقت لفك الحصار عن اخوانهم في مخيم بدر عندما عز نجدتهم من ذوي القربى، فما كان من شارون الذي عز عليه ان يرى هذه الجموع الزاحفة لفك الحصار عن الاهل إلا أن أوعز لعسكره وطائرات الاباتشي لامطارها بوابل من صواريخه وراجماته حيث سقط عشرات الشهداء والجرحى وجلهم من الاطفال والنساء، وارتكب شارون مجزرة تشبه في تنفيذها لا بحجمها مجزرة قانا في الجنوب اللبناني التي ارتكبت عام 1996. وأمام هول المفاجأة لم يكن بوسع عشرات العائلات إلا أن تهاجر من جديد، وأن تأوي عائلات أخرى الى الطوابق الارضية ريثما تمر عاصفة القصف الهوجاء، وقد تكدست جثث الجرحى والشهداء في المستشفى الوحيد في مدينة رفح وفي ثلاجات شاحنات النقل، ومنعت سيارات الاسعاف من نقل الجرحى الى مستشفيات خان يونس، وكأن مأساة فلسطين عام 1948 تتكرر من جديد في ذكرى مرور النكبة. وتؤكد احصاءات وكالة الغوث للاجئين ان العدو هدم أكثر من مائتي منزل وشرد نحو 2500 مواطن، فيما تشير منظمة العفو الدولية الى ان الكيان الصهيوني هدم منذ بدء الانتفاضة في القطاع 3 آلاف منزل وشرّد نحو 20 ألف مواطن، كما الحق أضرارا ب 15 ألف منزل، وهدم مئات الورش والمصانع والبيوت الزراعية البلاستيكية، ودمر آبار ومضخات المياه، وقنوات الري، واقتلع 226 ألف شجرة كما جرفت معظم الاراضي الزراعية، كما أدت سياسة الاحتلال الى جعل 60 من سكان القطاع تحت خط الفقر و65 من القوى العاملة عاطلة عن العمل، وقد وصفت هذه الاعمال بأنها جرائم حرب بموجب القانون الدولي واتفاقية جنيف. لقد ارتكبت مجزرة رفح على مسمع من المنتدى الاقتصادي الدولي المنعقد على ضفاف البحر الميت، وفي أجواء لقاءات سياسية فلسطينية وعربية مع باول وكونداليزا رايس، ولقاء بوش مع مؤتمر منظمة «إيباك» الصهيونية التي خاطبها قائلا: «إنكم في دفاعكم عن حرية وازدهار وسلامة «اسرائيل» انما تخدمون أمريكا». وقد قوبل خطابه بالتصفيق الحاد والوقوف 23 مرة تعظيما لموقفه، كما أكد مجددا التزام أمريكا بأمن وسلامة «اسرائيل» وأثنى على ديمقراطيتها، في وقت لم نسمع منه ومن إدارته سوى التأسف والقلق وضبط النفس بما يجري في رفح وفلسطين، ولا عجب في ذلك إذ أن ديمقراطية بوش وشارون مبنية على الاحتلال والدمار وانتهاك حقوق الانسان وقتل الاطفال والنساء وارتكاب المجازر من كربلاء والنجف والكوفة والفلوجة ومدينة القائم الى رفح وغزة وجنين وطولكرم والخليل ونابلس، فهل من العدل أن يطلب بوش ممن دمرت بيوتهم ومزقت أطفالهم بنيران الاباتشي وأسلحة من صنع أمريكي ضبط النفس، بينما يترك العدو يمعن تقتيلا وتدميرا؟... وهل يعقل ان يطلب بوش من أناس محاصرين بالحديد والنار برا وبحرا وجوا بوقف العنف بينما يترك العنان لطائرات الاباتشي تدمر البشر والحجر والزرع والفرع؟... إن هذه المواقف في فلسطين والعراق ويبدو أن صور تعذيب المعتقلين في سجن أبو غريب، ودماء أطفال ونساء فلسطين التي انسكبت على أديم رفح لم تزعج بوش ولم يود مشاهدة عويل النساء تختلط بدموعهن على أطفالهن وأشقائهن المضرجين بدمائهم بفعل الاسلحة الصهيونية، ولم تحرك شعوره مذبحة رفح ليكبح جموح شارون وإرهابه، إنما اكتفى بالتأسف والطلب من الضحية والجلاد ضبط النفس.