(باحث جامعي) لقد ساهمت السياسة الاجتماعية في تونس في بلورة ثقافة السلم وتطوير مناهج الحوار على جميع المستويات بما ساهم في شكل غير مسبوق في تكريس الاستقرار الاجتماعي داخل المؤسسة التونسية بالتوازي مع التطور الملحوظ في اعادة صياغة العديد من النصوص القانونية وخاصة منها في المادة الشغلية نظرا للأهمية التي تكتسيها باعتبار دور المؤسسة في السمو بالاقتصاد الى أعلى مراتبه وكذلك باعتبار الدور الفاعل لليد العاملة فيها وكيفية حماية المصالح الاجتماعية للطبقات الشغيلة وقد تجسد ذلك في تنقيح مجلة الشغل بالقانون المؤرخ في فيفري وكذلك بالقانون المؤرخ في جويلية وهما تنقيحان على غاية من الاهمية في مواكبة التطورات الاجتماعية في البلاد ولعل اصرار المشرع على ايلاء مؤسسة الصلح في النزاعات الشغيلة الدور الهام في فض النزاعات المترتبة عن العلاقات الشغلية دليل على ما لتلك المرحلة القضائية من أهمية في تكريس مناخ السلم الاجتماعي بين شريحة الاجراء والمؤجرين. وقد تناول المشرع التونسي مؤسسة الصلح في العديد من الحقول القانونية خاصة منها في مجال القانون الخاص وذلك يعزى الى ارتباط هذه الآلية بالعلاقات بين الأفراد لإنبثاقها من الارادة الذاتية للأشخاص. إن اجراء الصلح بين الطرفين في العلاقة الشغلية طور أساسي في سير الدعوى أمام دائرة الشغل التي يتوجب عليها مراعاته قبل النظر فيها حكميا وبقطع النظر عن وجود مساع صلحية قبل نشرها من عدمه وهو بذلك يختلف في مضمونه عن الطور التحضيري في الدعوى المدنية لما يتميز به رئيس دائرة الشغل من تدخل ايجابي بدل موقف الحياد وذلك اعتبارا لخصوصيات النزاعات الشغلية مما حدا بالمشروع الى افرادها بطور كامل للتحصيل على الصلح فيها حماية للمصالح الاجتماعية للأفراد. والمشرع يأمل من خلال تكريس تلك المرحلة التحصيل على معالجة ودية للنزاع القائم بين الطرفين تربط بينهما مصالح مشتركة ذات صبغة معيشية واجتماعية حتى لا يؤدي استفحاله الى نتائج غير محمودة لم يردها الخصوم أنفسهم عند رفع الامر للقضاء الشغلي وذلك إما لكون موضوع الشكاية بسيطا ولا يحتمل التدافع من جلسة قضائية الى أخرى او لغاية أحد الطرفين منها حث الآخر على الالتزام بمقتضيات تشريع الشغل. وقد جاء الفصل جديدا من مجلة الشغل بمقتضيات تساهم في تحقيق القصد الذي تبناه المشرع بما قد يرقى بمرحلة الصلح من مرحلة الشكل الى مرحلة المضمون، من ذلك ان الجلسة الصلحية يتم عقدها بصورة مخالفة للجلسة الحكمية لوجوب وقوعها بحجرة الشورى استبعادا لمسألة العلانية وحضور المحامين بما قد يساعد القاضي على التفرغ لدراسة الخلاف وتبين خفاياه في جلسة يغلب عليها الطابع الودي على هدي تصريحات كل طرف وماتم تدوينه من الملاحظات التي دأبت تفقدية الشغل على تضمينها بمحضر الشكاية ولا شك في ان في ابقاء المشرع على مصطلح حجر الشورى كمكان للقيام بإجراءات المحاولة الصلحية تدعيما لدورها باعتباره المكان الذي تختلي فيه المحكمة لمعالجة مسائل دقيقة في كنف الهدوء والسرية. وحتى في صورة فشل المحاولة الصلحية الاولى فإن لدائرة الشغل الحق في ان ترجئ الخصوم لعقد محاولة أخرى إما لغياب أحدهم أو لوجود بوادر صلح لم تكتمل ملامحها على ان لا يكون التأخير أكثر من مرتين ولا يتجاوز الخمسة عشر يوما في كل مرة مثلما اقتضته الفقرة الثانية من الفصل جديدا من مجلة الشغل لكي لا تكون سببا في اطالة نشر القضية او تضرر الاطراف المتنازعة من الآجال البعيدة مما يوجب صرف القضية بعد ذلك آليا الى طورها الحكمي حسب صيغة اللزوم المنصوص عليها بالنص المذكور. ورغم عيب بعض الفقه على التنصيص المتعلق بآجال المرحلة الصلحية من قبل الدائرة الشغلية وتقليصه لها أحيانا فإن الرأي السائد انه لا يبدو ان هناك مأخذا على قصر تلك الآجال وذلك باعتبار ان اطالتها قد يؤدي الى اطالة فترة انقطاع العلاقة الشغلية وتراجع الاطراف عما بدر عنهم من رغبة أولية في اتمام المساعي الصلحية ويعتبر بذلك التشريع الشغلي في تونس من أول التشريعات التي درجت على تكريس حماية الحقوق الفردية للأفراد والجماعات وذلك بتقنين المرحلة الصلحية كإجراء وجوبي في العديد من المواد وخاصة في المادة الشغلية ولو انها لا تبدو كثيرة في بعض المواد القانونية الاخرى. وقد تأتي تنقيحات أخرى قد تدعم التشريع في تونس توازيا مع التطورات الاقتصادية العالمية.