تنبيه أول : ليس ديوان شعر في أوراق وعلى الأوراق حبر، وفي الحبر كلام، وفي الكلام مبنى وفي المبنى معنى، وفي المعنى مغنى والحاصل شعر. تنبيه ثان : وليس ديوانا بمعنى المصلحة العمومية العائدة بالنظر الى احدى الوزارات مثل التربية أو الثقافة أو الداخلية على سبيل المثال. تنبيه أخير : ولكن، هو عنوان مقال قد خطر على البال، وقد يلاقي من القراء التدبّر والجدال، كما قد يكون مصيره الاهمال، ويبقى في كل الاحوال مجرد مقال، عنوانه مثير للسؤال. **في الديوان دخلت كلمة «ديوان» الى لعربية، هذه اللغة الهضوم، وصارت هذه الفارسية الاصل، ميسورة الفهم والاستعمال والاستقبال والتداول عند العرب وقد اشتقوا منها فعل (دون) مصدره (تدوين) واسم فاعل (مسدوّن) واسم مفعوله (مدونة) اي حصيلة المعلومات. واستخرج جمع ديوان (مفعال) على قياس مفاتيح وعصافير وصار الجمع (دواوين). وقيل ومازال يقال : إن الشعر ديوان العرب وفيه تقييد أحوالهم ومعاشهم وأفكارهم وعاداتهم وفنونهم وتاريخهم. وفي منطقة الخليج العربي يسمّون المجالس الخاصة التي يتدارس فيها الرجال الشؤون التي تهمهم (ديوانية) وللنساء (ديوانية النساء). والفرنسيون أخذوا الكلمة وصارت DIVAN كناية عن الكرسي الذي عليه يجلسون ويستقبلون الضيوف، وفي تونس نستعمل الكلمة نفسها (ديفان) للدلالة على المقعد الوثير الذي نخص به الضيوف. **في الشرطة الشرطة في اي بلد في الدنيا ومنذ أن وُلدت لم تستطع أن تمنع وقوع الجريمة، ولكن وجودها كقوة ردع خففت قليلا او كثيرا من نسبة الجرائم، وقد ابتدع الانسان المدني الشرطة لحماية نفسه من أخيه الانسان، بعد حادثة قابيل وهابيل، وتأسست الشرطة لفرض العقاب على الذين يستغفلون الآخرين، حاسبين أن لهم الحق في ارتكاب ما يشاؤون من جرائم، واذا كان هناك عقاب، فليكن بعد الموت في يوم الحساب. لقد تفطن الانسان الى أن له في الحياة قصاصا ولذا كان لزاما اقامة الحد الواصل بين الجريمة والعقاب. **في اللغة الاشهارية أما بعد، فإن الذي جعلني أفكّر في هذا الديوان كمقال هو الواقع اللغوي الذي بتنا نحياه (وأكاد أقول بتنا نموته) في أرض العرب الذين يبدون الآن وهنا وهناك غير قادرين على أن يحافظوا على الهواء الذي يرغبون في استنشاقه وعاى هويتهم في مهب العولمة. في التلفزيونات العربية وفي الصحافة باتت اللهجمات المحلية هي المهيمنة. في الأغنية والدراما... الخ. أما الشارع فصارت اللغة فيه سائبة مثل كلبة مسعورة تعض الاذان التي تنشد التغريد واللافتات الاشهارية تعكّر المزاج السليم بلغة خليط من عامية وفرنسية وانقليزية فجاءت غير سليمة عربيا، سقيمة فرنسيا، وغير مفهومة انقليزيا، ولكنها لغة اشهارية حرة تتجول على كيفها مثل مجرم طليق والناس يستمعون اليها دون ان يشعروا بالعدوان. إنها لغة اشهارية لا تشبه الا رئيس الوزراء الصهيوني شارون الذي يعتز بتشبيهه من قبل الصحافة الاسرائيلية بالمجنزرة او البيلدوزير او (بليد وزير) (وزير بليد) وهو يحطّم البيوت ويطحن العظام الفلسطينية دون رادع. لغة اشهارية لم يُستشر فيها أهل اللغة وصنّاع الذوق الجميل، فأصحاب السلع لا يكتفون بإنتاج السلعة انهم ينتجون لغة الترويج كلف ذلك ما كلف من لغة متهافتة، متساخرة، رعناء، ويظنون أنفسهم مبدعين والحال أنهم أميون يحتقرون المعرفة، وأهل الفكر، ويستشيرون أهل السواعد المفتولة، وجاهزون، من اجل مصالحهم لإفساد كل القيم، لذلك هم يفسدون الطريق ويلوّثون اللغة ويلوون أعناقها يحرّفون الأمثال العامية ويتطاولون على قصيدة شهيرة يستولون على صياغتها ويحشونها بكلام دعائي من أجل ترويج السلعة. يكتبون الكلام مثلما يُسمع لأنهم لا يعرفون القراءة، لا يخشون في الظلم لومة لائم. وهم بذلك يحتكرون كل شيء ويفهمون حتى لغة الاشهار التي ترسمها لغة تُرهب اللغة وتخجل أهل اللغة والابداع وقد أحيلوا رغما عنهم على التقاعد. إني أرى أن الواجب يقتضي ان يهتم كل واحد بشغله. فصاحب السلعة يهتم بسلعته جودة في التصنيع وقدرة على المنافسة. وصاحب اللغة هو الذي يتولى إن صح التعبير هندسة الذوق وتربية الحس الجمالي والذوق الفني وأهل الرسم والتشكيل والعمارة معنيون بهذا الامر لكنهم مُبعدون يعلّقون بسخرية على ما يجري وقد يكتفون بالانسحاب الصامت. إن من يشاهد الشارع العربي والتلفزيون العربي وما أكثر قنواته التي لا تدل كثرتها على البركة، يلاحظ ان اللغة في أغلب القنوات والاذاعات تتسابق وتتناطح من أجل أن تكون أقرب الى الناس حسب زعمهم، وكأن القرب من الناس لا يكون الا بهذه اللغة التي لا تخلص لأي لغة غير الفوضى اللاحقة بهذا الزمان الذي يكشّر عن أنيابه يوما فيوما. وفي غياب تام للوعي يظن مروّجو هذه اللغة الاشهارية أنهم يروّجون سلعة غذائية، يرسمونها على قطار يمشي ببطء، فيدهس الذوق وينتج حوادث جمالية ولغوية لا حصر لها أو في معلّقة ضوئية لا تكف عن الغمز مثل صيدليات الليل، مع فارق هو احتشام الصيدلية ووقاحة هذه الاشهارات التي تبيع السم لقتل الذوق وقد صار يمشي بخطى ثابتة نحو الدرك الأسفل من الانحطاط وهو يسابق الحضيض!!! وكأن هذه البلاد العربية المترامية الأطراف قد فقدت نهائيا المناعة اللغوية وصار الجميع مهددا في الفهم والتواصل مما يستعدي خلق ديوان الشرطة اللغوية!