اللغة في الأصل هي التحاور بيني وبينك في دباجة أصيلة لمفردات نقية وكلمات مهذبة وايماءات توحي بالأصالة وتبليغ المقصود دون التجني عليها وقضم مصطلحاتها البليغة وإبدالها بأخرى ركيكة وتهجينها وإفساد مستوى التخاطب بألفاظ غريبة ودخيلة على لغتنا الأم. ومن العبث واللامبالاة أن نبقى مكتوفي الأيدي دون أن نحرك ساكنا وأن نتجاهل ما يدور حولنا حتى صرنا نخاف فعلا على هويتنا ولغتنا من أي وقت مضى من الانحراف والذوبان في أتون مفردات لا تمت لواقعنا بأي صلة. والسبب في ذلك يعود أصلا إلى عدّة تجاوزات أضحت مألوفة لدينا سواء في البرامج الاذاعية أو التلفزية أو الومضات الاشهارية سواء منها المرئية على الشاشة أو المكتوبة على الملصقات في كل مكان وحتى مدارسنا الابتدائية ومعاهدنا الثانوية والجامعات التي كنّا نعدّها بمثابة الحصن لهويتنا ولغتنا انزلقت هي الأخرى إلى هذا الزخم من التعريف اللغوي والاستهجان بثقافتنا. فالمسألة أضحت اذن خطيرة جدّا وعلى كل الهياكل المعنية الاهتمام بها أكثر واعداد العدة لمجابهتها بكلّ الوسائل المشروعة والطرق المنهجية المبرمجة والاّ أصبحنا على ما أظن على قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في المحظور. المجتمع المدني بدوره عليه بالأساس لعب دور في استساغة مشروع متكامل يحمي لغتنا من هذا الانزلاق ويصون لغة التخاطب حتى في شوارعنا وفي وسائل النقل والأماكن العمومية التي أصبحت مرتعا لكلام غير مألوف عن لغتنا الأم، كلام ركيك وبذيء ومستهجن لا تستسيغه الاذن فأصبحنا نلوك كلاما مأخوذ من لكنة شرقية ومفردات غربية وحتى بعض العائلات التي تدعي التمدن يسعون إلى مخاطبة ابنائهم الصغار بلغة أجنبية غير سليمة ظانين ان التفرنس اللغوي هو شعار هؤلاء البورجوازية الجديدة التي ترى في التخاطب باللغات الأجنبية مقياسا لمدى تحضرهم المغلوط حسب اعتقادهم وفي الأصل نحن لسنا ضدّ تعلّم أي لغة كانت بل بالعكس نحن نسعى إلى الأخذ بكل مكونات العلوم واللغات الأجنبية للانصهار في المنظومة العلمية والتقنية وهذا ليس على حساب التفريط في موروثنا الثقافي واللغوي. ففي المدارس والمعاهد وحتى الكليات أصبح التخاطب بين الناشئة بلغة وكلمات لا تمتّ إلى واقعنا أصلا فهي خليط بين كلام مبتذل مستوحى من «ثقافة الشارع» الذي أصبح يهدّد تقاليدنا وأصالتنا وبين لغات مستوردة غير سليمة علميا في نطقها وهذا ما حدى بنا إلى التساؤل عن دور المربي ومدى استعداده لمواجهة هذا الداء الذي بدأ ينخر مجتمعنا؟ فالآراء اختلفت هنا حسب التصنيف: ففئة ترى أنّ دور المربي مقتصر على أداء وظيفته التعليمية دون سواها فهو مقيّد ولم تعد له صلاحيات التدخل لأداء وظيفته التربوية، وفئة أخرى ترى أنّ دور المربي أضحى سلبيا وغير مسؤول فلم يعد يعير أي اهتمام لما يمسّ في اللغة الأم ولا هو قادر على تأطير هذا الجيل للأخذ بيده وتبسيط واصلاح هذا الارث اللغوي الأصيل الذي هو عنوان هويتنا وأصالتنا وحصانة الفكر والوجدان التونسي. كما أنّه لا يخفى على أحد من أنّ عدّة برامج سواء منها اذاعية أو تلفزية هي الأخرى تتحمّل القسط الأكبر في اشاعة هذا النمط اللغوي الرديء اذ يعمد بعضهم الى استعمال كلمات ومفردات غير مألوفة في قاموسنا اللغوي الصحيح ممّا يجرّ حتما إلى تبليد ذاكرتنا وتهجين لغتنا واستلاب ثقافتنا وانبتات شخصيتنا. فالمسألة أضحت خطيرة بعض الشيء وكأنّ هؤلاء الاعلاميين لا يهمهم سوى تمرير منوعاتهم بأي شكل من الأشكال ودون أي عناء يذكر ودون تقيّد بمخاطبة الناس بلغة سليمة وكلمات منتقاة من أصالتنا ومجتمعنا العربي الأصيل وحتى بعض الفنانين الذين يستضيفونهم في منوعاتهم والمحسوبين على الأغنية التراقية فقد ساهموا مساهمة فعّالة في تبليد الذوق والحط من التراث إلى أسفل لاستعمالهم كلمات استفزازية غير مألوفة في واقعنا وتمسّ من نمط أخلاقي معين. إذا فالمسألة أصبحت تحتاج إلى مراجعة هذه البرامج والمنوعات والسموّ بها من الوقوع في المحظور وإلى اتخاذ موقف حازم من لدن أصحاب القرار لانتقاء ماهو أفضل ومن هو الأجدر ثقافيا وعلميا لتفعيل هذه البرامج سواء منها الترفيهية أو الثقافية من أجل حماية خصوصيات الذات وأبرزها اللغة والسعي إلى احترام الشخصية التونسية التي لا تقبل الذوبان والتفسخ.