لم يجد السيد بول بريمر في توديع العراق والعراقيين، أفضل من قصيدة ابن زريق البغدادي لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه فاستظهر أبياتا قليلة منها، وهو يستعد للرحيل عن بغداد والحق أنه نمّ بذلك على ذوق فني رفيع. فقصيدة ابن زريق من عيون الشعر العربي القديم. وقد ذاعت عند القدامي، وفتنت المعاصرين، فعارضها بعضهم، وأشهرهم احمد شوقي. وأذكر شخصيا أني ما التقيت بالشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، وهي التي تعشق الشعر القديم وتكاد لا تعدل به شعرا، إلا وشاركتها في انشاد هذه القصيدة التي لا أزال احفظ الكثير منها. وكذلك كان الشأن مع أدونيس والطيّب صالح والمتوكل طه... وقد طلب منّي الاستاذ عبد الوهاب بوحديبة رئيس بيت الحكمة مرّة ان أمدّه بمختارات من الشعر العربي، لتنشد خلال شهر رمضان، فكانت هذه القصيدة في صدارة ما اخترت. أما ذيوعها فمردّه الى أسباب كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها. ولعلّ اظهرها الاشارات التي تتخللها الى اشياء في الحياة اليومية، تجري في عربية بسيطة لا تلوي عليها حبال الاستعارات وأورام البلاغة. فقصيدة ابن زريق، بأبياتها القويّة المؤثّرة، تبتعث في القارئ وهما بأن اللغة نفسها قد اختفت، وليس هناك من وسيط بين العالم والشعور. وكأن الاشياء والكائنات في القصيدة ليست كلمات فهي تفصح عن مكنوناتها دونما حاجة الى اللغة. لا أدري أيّة علاقة يمكن ان تجمع بين ابن زريق والسيد بول بريمر، فابن زريق من اهل بغداد. كان كاتبا في ديوان الرسائل. ويبدو أن الحال ضاقت به كما ضاقت باهالي بغداد في الثلث الاول من القرن الخامس للهجرة، فقد انضبت الحروب والثورات موارد الدولة وكسدت الاسواق وتعطّلت المرافق واشتعلت بغداد بالفتن واشتغلت بها عن كل ما عداها. ولا شك ان شاعرا مرهف الحس رقيق النفس مثل ابن زريق لم يكن في فسحة من أمره فقرّر الارتحال الى الاندلس التي لم تكن بايسر حالا من العراق. فوفد عليها وهي في عز فتنتها (400 422 ه). والذي يقرأ تاريخ الاندلس يلاحظ انها كانت على الدوام في غمرة العواصف والانواء ولم تنعم بالامن والاستقرار الا في فترات من تاريخها، قصيرة مقتضبة. جاء في سيرته أنه مدح عبد الرحمان الاندلسي فلم ينل منه ما كان يأمل فعاد الى الخان الذي كان نزل به، وفيه كتب قصيدته الشهيرة متذكّرا بغداد وحب زوجته الذي ملأ قلبه وملك عليه مذاهبه. ولم تثنه توسلاتها وتشفعاتها ولا صبابتها عن هذه الرحلة الفاجعة. المراجع القليلة التي تيسّر لي مراجعتها بعد ان استمعت الى السيد بول بريمر ينشد أبياتا من القصيدة تكاد لا تذكر شيئا عن هذه المرأة التي تيّمت قلب ابن زريق سوى انها ابنة عمّه. ولكن من اللافت حقا أن ابن زريق يكاد يكون الشاعر العربي الوحيد الذي تغنى بزوجته وتغزّل فيما صرف شعراء العربية غزلهم في العشيقة دون الزوجة. كتب ابن زريق قصيدته ونام نومته الابدية. وعندما تفقدوه في غرفته كان في عز الموت والقصيدة تحت مخدته . والقصيدة انما تقرأ زهرة او امرأة او عشبة او بلدا ونهرا وسماء... يقول ابن زريق مخاطبا زوجته: جاوزت في نصحه حدا أضرّ به*** من حيث قدّرت ان النصح ينفعه فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا *** من عنفه فهو مضني القلب موجعه يكفيه من لوعة التشتيت أنّ له*** من النوى كل يوم ما يروّعه ما آب من سفر الا وأزعجه*** عزم الى سفر بالرغم يزمعه كأنما هو في حلّ ومرتحل *** موكّل بفضاء الله يذرعه استودع الله في بغداد لي قمرا *** بالكرخل من فلك الازرار مطلعه ودّعته وبودّي لو يودّعني *** صفو الحياة واني لا اودّعه وكم تشفع بي ألا أفارقه *** وللضرورات حال لا تشفعه وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحى *** و أدمعي مستهلات و أدمعه لا أكذب الله ثوب العذر منخرق *** مني بفرقته لكن ارقعه إني أوسّع عذري في جنياته *** بالبين عنه وقلبي لا يوسّعه... كان السيد بول بريمر يتسلل الى الطائرة بعد حفل باهت في المنطقة الخضراء، حفل يليق حقا بحكام العراق الجدد... ولعلّه كان يردّد بينه وبين نفسه ابياتا اخرى من قصيدة ابن زريق. اعطيت ملكا فلم احسن سياسته *** وكل من لا يسوس الملك يخلعه بالله يا منزل القصر الذي درست*** آثاره وعفت مذ بنت اربعه هل الزمان معيد فيك لذّتنا *** أم الليالي التي أمضته ترجعه