في حضن والدتها ألقت بجسمها الصغير. هذه الحركة تكررها هذه الطفلة على امتداد اليوم تلجأ لوالدتها لا لشيء إلا لتدلك جنبها الايمن بحركات متواترة من دفء يدها عسى أن تذهب عنها الألم وتنعش بشرتها التي فقدت رهافتها ونضارتها بسبب حريق، وهي تسرح بأحلامها الطفولية متمنية أن يأتي اليوم الذي تتخلص فيه من تشوهات تعيق نموها وتسلب منها مرحها. المقعد المقابل من ذاك المنزل الضيق الندي بحي النور بالقيروان الذي اجتمع فيه كل شيء عدا حسن الترتيب حيث كان يجلس والدها يحرس طفلا سريعة حركاته كثير غضبه وبينهما طفل آخر يمرغ بين شفتيه قطعة حلوى ويذكر والدته باللعب التي وعدته بها. كان الالم يلح على الطفلة إيمان بن زهير الحامدي (11 سنة) مما جعلها تحرك ذراعها في غير انتظام. ألم سببته حروق اكتسحت بشرتها الرقيقة قبل سنتين وحركات انفعالية متواترة جراء تلك الندوب التي خلفتها الحروق تحولت الى طبقة سميكة من الجلد المشوّه تثير رغبة ملحة لديها في «الحكاك» فترتمي في حضن والدتها متوسلة اليها أن تدلك تلك المساحة من البشرة المحترقة عسى تخفف عنها ما يشبه الالتهاب. وإيمان تلميذة بالسنة الرابعة ابتدائي أضحت عاجزة عن الكتابة بيمينها بيسر كما تؤكد شدة ألمها من «الحساسية الجلدية» جراء تضاعف سمك المساحة المحروقة. ولعل هذا الوضع جعلها محل سخرية من قبل أترابها في المدرسة وحرمها مرافقتهم بسبب حركاتها المستمرة جراء الشعور بالالم وعجزها عن إطفائه. ندوب مؤلمة تعود قصة هذه الطفلة مع «العاهة» الى نحو سنتين عندما نشبت نيران الموقد في ثيابها ذات يوم بسبب انشغال والدتها بشقيقتها الصغرى. وقد ألحقت تلك النيران ببشرتها حروقا سطحية نقلت على إثرها الى أحد مستشفيات القيروان. وهناك وبالرغم من غياب قسم مختص في الحروق إلا أن الاطار الطبي بذل قصارى جهده في علاجها بحسب ما توفر من إمكانات لكن يبدو أنها لم تكن ذات نجاعة عالية. وتؤكد الوالدة سالمة (37 سنة) أن حروق ابنتها كانت سطحية إبان الحادثة لكنها تعفنت وتضاعفت رغم مرور ثلاثة أشهر من العلاج المتواصل بالمستشفى قبل أن «تطير» بابنتها الى أحد المستشفيات بالساحل أين مكثت نحو عام كامل وهي مدة العام الدراسي الذي خسرته إيمان وهي نزيلة المستشفى ما جعلها ترسب في نفس السنة الدراسية (الرابعة) نظرا لعدم مباشرتها للدروس. لكن خسارة العام الدراسي لم تؤت أكلها كما تمنت إيمان ووالداها. فبسبب تأخر التدخل استعصت الحروق على العلاج بصفة جذرية وتسببت في مضاعفات صحية جعلت تلك الاصابات تمثل عائقا لنمو الطفلة وسلامة جسدها خاصة وأنه أصبح يلاحظ انحناء في مشيتها ووقوفها. كما عرقلت تلك الاصابة مرحها الطفولي وسحبتها من بين لعبها. إلا أن الوالدين واصلا عرض ابنتهما على العلاج رغم ضيق ذات اليد. ولعل الامل قد راود أم إيمان كما داعب هذه الطفلة بتوفر علاج يخلصها من مشاكل تلك الحروق. وأكدت الوالدة أن الطبيب أكد إمكانية تخليص الطفلة من الألم وأعراضه المقلقة بالاسراع بإجراء عملية جراحية تجميلية استعجالية قبل تفاقم الوضع. 12 مليونا... الأمل سرعان ما تسحب الوالدة سالمة ابتسامة أطلقتها متفائلة وهي تربت بيديها على رأس صغيرتها مؤكدة أن تكلفة العملية الجراحية تتطلب 12 مليونا من مليماتنا لرسم البسمة على وجه صغيرتها. لكن حيرة الوالدين بسبب عجزهما عن توفير المبلغ هي التي تضاعف ألمهما. وتمنت الوالدة لو أن لديها ما تقدمه لابنتها. وهي تقول «العين بصيرة واليد قصيرة» وهي تأمل في أن تحصل على مساعدة من أهل البر والاحسان. قصر يد هذه العائلة يبدو ملفتا بلاشك. بدءا بمحل الاقامة الذي علمنا أنها تقطنه على وجه الكراء وحقيقة فإن قبولها الاقامة فيه يثير التساؤل بسبب رائحة ولون الرطوبة التي أكلت الجدران وانتقلت الى الاجسام فأضحت عليلة. لكن ومع تتبع تفاصيل هذه الاسرة تبين لنا أن حالة إيمان التي تثير شفقة الوالدين ليست سوى فصل من قائمة طويلة من المتاعب الصحية لهذه العائلة والتي من حسن الحظ أن عناية المسؤولين تداركتها وساعدتها على مواجهة المتاعب قبل تفاقمها وهي لا شك ستتواصل. حصار الاعاقات الوالد زهير بن مصباح (42 سنة) يحمل بطاقة إعاقة عضوية بسبب حادث شغل لكنه لم يتحصل على تعويض مادي عنه بسبب عدم وجود ضمان ولا تأمين صحي يحميه وقتها أثناء عمله بحضائر البناء مما جعله يلازم المنزل ويزيده عجزا مرض «الربو» وضيق النفس جراء رطوبة المنزل ولهذا فهو لا يفارق قنينة الدواء خشية تعكر صحته المهددة مع قدوم الشتاء. وغير بعيد عن الوالد زهير وعلى مرمى بصر منه كان الطفل عمر (6 سنوات) مستلقيا على الحشية يحاور قطعة الحلوى بصوت عال غير مفهوم وبكاء متواصل متشنج. هذا الطفل أضحى منذ 3 سنوات ضمن قائمة أصحاب الاعاقات الذهنية. وهذا الطفل يشكو من انفعال مفرط يتقلب بين الضحك والبكاء في لحظات كما يشكو من داء المفاصل مما جعله محل عناية خاصة من الابوين. وكان من المفترض أن يلتحق عمر بالمدرسة رفقة أترابه لكن خصوصية وضعه ستحول وجهته الى مركز تأهيل المعوقين بالمدينة وهو إنجاز رائد بالجهة وهدية كبرى من الدولة. قد تكون الوالدة سالمة الدخيلي (37 سنة) من الناحية الصحية أوفر حظا من بقية أفراد أسرتها. بدت لنا كذلك وهي تسرد علينا مجابهتها للظروف الصعبة وترددها على المستشفيات وعملها في بيع الشاي وغيره لتوفير نفقات العائلة من كراء المنزل الى الادوية وثمن العلاج قبل أن تفاجئنا هذه المرأة الصامدة التي تؤكد أنها تعلمت الصبر في هذا المنزل، بالقول بأنها تعيش بكلية واحدة بعد أن فقدت الثانية بسبب مرض باطني أفقدها أيضا «البنكرياس» (المرارة). ... وسرعان ما انهارت هذه المرأة ليس بسبب ما سبق ذكره عن الاوضاع الصحية ومتاعب السكن ومعاناة ابنتها وإنما بسبب سؤال... واحد كان أشد من الاحداث المريرة. كان ذلك عندما دخل الطفل حامد (14 سنة) ليكتمل العدد: أربعة أبناء. وقد فاجأتنا المرأة بدموعها بمجرد سؤالنا عن ملابس العيد للاطفال... كانت الدموع إجابة كافية للسؤال عن اللوازم المدرسية. مسؤولون في الموعد المشهد انفتح أمامنا على أكثر من حالة وفاق عدد المعوقين عدد الاصحاء، والد بصفة مقعد يتجرع دواء الربو وطفل في عمر الزهو اختطفته إعاقة ذهنية منذ صغره وهي مرشحة لتقذف به بعيدا بحسب تحذير الاطباء ما لم يجد العناية ووالدة تحمي عرينها في صمت أذاب كليتها كما ذهب بشبابها. فلمن سيبتسم هذا العيد؟ هل سيعرف هذا المنزل بعد غياب وهل سيجد الاطفال منه ضالتهم ولعبهم. إن ما يثلج الصدر صراحة هو ان المسؤولين على علم بوضع هذه الاسرة. وليس مجرد العلم فحسب فقد لامست عناية فائقة من السلط الجهوية التي مكنتها من بطاقتي إعاقة للطفل ووالده وبطاقات علاج (ليست مجانية). كما مكنت الوالدة من عربة لصناعة وبيع الذرة المقلية (الشوش)، حتى توفر مورد رزق لأبنائها. وينتظر الوالدان أن تطول القائمة وتصل الى منحة عائلية قارة مع توفير عمل للوالدة (عاملة تنظيف) مع تمكين الاسرة من مسكن لائق ولو على سبيل الكراء بعد أن أكدت المرشدة الاجتماعية التي زارته قبل أشهر عدم صلوحيته للبشر. وتنتظر العائلة أن تشملها قوافل المساعدة التي انطلقت منذ بداية رمضان في ربوع تونس الخضراء والتي أقرها الرئيس زين العابدين بن علي في إطار إحاطته الشاملة بذوي الدخل ورعايته السامية للعائلات المعوزة. وأعربت سالمة عن أملها في أن تجد حظها من المد التضامني لقائد التغيير أو من جمعية بسمة. كانت سالمة تقول ذلك موشحة بالعلم التونسي ومتمسكة بصورة مرشحها (بن علي) ومؤكدة دعمه في الاستحقاق الانتخابي يقينا منها بإنجازاته الرائدة ولاطمئنانها لمستقبلها في عهده وتحت كنفه.