واحد اثنان ثلاثة.. ليست مجرد أعداد بل هي رقم من أصعب الأرقام لاحدى العائلات، أبناء ثلاثة من زينة الحياة الدنيا ملؤوا قبل أيام حياة والديهم فرحا وبهجة ليؤنسوا وحدتهم لكنهم تحولوا الى عبء وحمل ثقيل بسبب مرضهم. في ركن من المنزل يجلسون متقاربين في حالة استعداد قصوى لأي طارئ يواسي بعضهم الآخر ويشدّ على عضده ويربّت على أحلامه ويمسح أحزانه. الألم عندهم شأن يومي وواجب في جدول حياتهم، والمعاناة غذاء أساسي على طاولتهم والمتاعب وجبتهم الصباحية، حالة وصفها الأطباء بالنادرة ويصفها الوالدان بأنها لا تطاق.. لأنها مرهقة للبدن وللنفس وللأحلام لولا تلك الرعاية التضامنية التي يلمسونها من أهل البر ومن المسؤولين. سعاد (23 سنة) وسمير (21 سنة) وأمينة (12 سنة) قيزاني، أسماء عادية في الحياة لكن قصتهم غير عادية مع المرض والمعاناة، فهذه الزهرات اليانعة تلبّسها مرض القصور الكلوي قبل سنوات وألزمها مركز التصفية (دياليز Dialyse) اليومية. سبب المرض حسبما أكدته التحاليل الطبية زواج الأقارب ويبدو أنه لن يقتصر على هذا العدد وبقية الأبناء يجرون التحاليل. بداية المرض قبل ربع قرن كان زواج الوالدين محمد القيزاني (51 سنة) ونجمة القيزاني (46 سنة) ولقد رزقا خلالها بستة أبناء ولأن نعمة البنين لا تضاهى فقد استبشرا خيرا بنسلهما رغم وفرة العدد وتوجها الى تربيتهم ورعايتهم قدر المستطاع في تلك القرية النائية «معروف» الواقعة بمعتمدية الوسلاتية من ولاية القيروان. لكن سرعان ما انقلبت النعم وتغيرت الأحوال فبعد نحو 20 سنة وبعد أن شبّ الأبناء بدأت المصائب تتساقط على العائلة وحلّت المآسي بعد أن سقط ثلاثة أبناء الواحد تلو الآخر ضحية مرض «القصور الكلوي» وبالتالي دخول الوالدين في دوامة من المعاناة والمتاعب. بدايتهم مع المرض مختلفة ومتفاوتة، فسعاد أدركها المرض قبل سبع سنوات بينما هي بصدد مزاولة دراستها التي انقطعت عنها في سنة 16، أما سمير فأصابه المرض سنة 2004 قبل أن تسقط الطفلة أمينة (12 سنة) ضحية ثالثة قبل سنتين. شعور بالتعب والارهاق تلك هي أعراض المرض، أما نتيجة الفحوصات والتحاليل فهي صرخة مدوية، إنه ذلك المرض الذي يبدو أنه يتهدد طفلا آخر من نفس العائلةوهو زهير (13 سنة) لايزال تحت التحليل والفحص الروتيني بسوسة ومن يدري عن البقية. عندما فاجأه المرض اضطرسمير (21 سنة) الى الانقطاع عن الدراسة بسبب اضطراره الى القيام ب«التصفية» في القيروان أين يوجد المركز الوحيد بالولاية.. 3 حصص في الأسبوع متابعة مستمرة للعلاج بصفة يومية جعلت الأبناء يغادرون والديهم نحو أقرب محل لمركز التصفية بالمدينة بعد أن أصبح عدد المرضى في هذه العائلة 3 أبناء مما تسبب لها في عديد المتاعب جراء الانتقال اليومي الى المدينة لإجراء حصص العلاج بصفة يومية. ولقد اضطر الأبناء الى الاقامة مع جدتهم «حبيبة» في حي النور وهي عجوز تعيش وحيدة، مغادرين حضن والدتهم وبالأخص الطفلة أمينة التي كانت لا تزال في العاشرة من عمرها حينها. لم يكن الأمر هيّنا بالنسبة للوالدين أيضا سواء تقبلهما للمرض أو فراق الأبناء، وأكد الوالد محمد القيزاني (51 سنة) أن الصبر وإيمانه بالقضاء والقدر جعلاه يتحمل الآلام والمتاعب بخلاف الوالدة نجمة التي كانت شديدة التأثر بسقوط أبنائها فريسة المرض دون أن تجد لهم حلا. يتواسون ويتواصون كان لا بد أن نتساءل عن كيفية تعامل الأشقاء مع المرض في هذه الحالة وكيف يعامل بعضهم الآخر، فهم يحملون نفس الآلام وليس بينهم معافى يعينهم أو يسهر على خدمتهم فحتى جدتهم عجوز. يفهم سمير سؤالنا من أول كلمة فيجيب بأنه وشقيقيه يتعاونون ويقول »الصحيح فينا يحمل التاعب»، ذلك هو شعارهم في وجه المرض، فإذا شعر أحدهم بالتعب أو الارهاق النفسي يجد البقية بجانبه تواسيه وتساعده وتشد من عزيمته بكلمات يبدو أن لها الأثر الطيب. موضوع حديثهم اليومي هو مرضهم ومراقبة بعضهم البعض هو أهم ما يشغلون به أوقاتهم. ثلاث حصص في الأسبوع لكل منهم مواعيد مضبوطة ومتابعة مستمرة وتلك هي ميزات قربهم من المركز بمدينة القيروان الذي يعد انجازا كبيرا لفائدة الجهة. ويستقبل مركز التصفية يوميا أحد الأشقاء على الأقل مما جعلهم موضع انتباه ورعاية من الاطار الطبي بالمركز وتدوم حصة التصفية وحدها أربع ساعات يعقبها تعب وإرهاق وإغماء وعندما يعودون الى المنزل يمضون يوم انتظار الحصة الموالية في النوم. حرمان من الطيبات أما عن نوعية المأكولات وأصناف الأطعمة فذكرت سعاد أنهم محرومون من لذة الحياة وأنهم يعانون من مرارة الحرمان من الفواكه والخضر واللحوم بأنواعها والحلوى والمشروبات بأنواعها بما فيها الماء، إذ لا يسمح للمريض أن يتجاوز نصف لتر يوميا من السوائل حتى في ظل حرارة الصيف الخانقة. فهم مطالبون بتعويض تلك الأصناف الغذائية وفوائدها بالأدوية من أقراص وحقن يحرمون منها أيضا ليس لشيء سوى لأنها باهظة الثمن (بعض الأقراص تقدر ب50 دينارا لمدة 3 أيام للشخص الواحد) وأحيانا لا تتوفر بالمركز. ويستغربون سؤالنا عن أجواء شهر رمضان وسهراته وأطعمته ودفء العائلة فيكتفون بالصمت أو القول أنهم لا يعرفون معنى هذه الأشياء منذ إصابتهم بالمرض. وأكدت سعاد أنها محرومة من حضور حفلات الزفاف وأفراح العائلة بسبب العجز عن التنقل خشية الإرهاق ممّا يجعلها تلزم المسكن لا تغادره الا للتحليل على متن سيارة «تاكسي». ... والطفولة مفقودة كانت تجلس الى الأرض وقد ضمت ركبتيها بيديها النحيلتين الى صدرها تسترق النظر من خلف أهدابها. زهرة طفولتها عبث بها المرض ففقدت نضارتها. هي أمينة طفلة ال12 سنة أوقع المرض بطفولتها وكبل براءتها. أمينة فاجأها المرض على مقاعد الدراسة أرهقها غياب مرحها حرمها من اللعب والجري خلف الفراشات وحتى الغذاء المتوازن الذي لا يحتمله مرض قصور الكلى فكانت هزيلة. تبدو مختلفة عن شقيقيها. تسمح لبعض البسمات ان ترتسم على شفتيها ربما لأنها صغيرة ولم تدرك بعد معنى المرض كما تقول شقيقتها سعاد خاصة وأنها تحظى برعاية خاصة من الإطار الطبي بالمركز. وهي ترى في رعاية الإطار لها قيمة كبيرة من العطف والحنان بعد غياب الوالدين بسبب بعدهما وتباعد مواعيد زيارتهما التي تكون في الأعياد. عند زيارتهم لوالدتهم التي تستقبلهم بعيون دامعة تطبخ لهم أطيب الطعام وألذّه، لكن عندما ترى أنهم لا يستطيعون أكله وهي تعلم ذلك مسبقا تنخرط في البكاء وتخفي وجهها بكفيها أو تلتفت نحو الجدار حسرة. ورغم خضوعها لحصص التصفية وتغيبها المستمر فقد حافظت الطفلة أمينة على تألقها ونبوغها ولم يستطع المرض ان يسلبها ذكاءها وعقلها وان حرمها الجسم السليم، فقد اجتازت مناظرة الرابعة أساسي بتفوق رغم أنها لم تكن تستطيع حمل محفظتها المهترءة. أمل وألم شعور صعب ينتاب سمير كما ينتاب شقيقتيه وهو يرى أترابه وأصدقاءه وزملاءه في المدرسة يعيشون ملئ حياتهم ويمرحون ويأكلون. ويؤكد بملء يقينه ان المرض قضاء وقدر. وأن قدرتهم على تحمل الآلام والمتاعب ترتبط بتوفر المساعدة والقدرة على مواجهة المصاريف التي تمكنه وأشقاءه من تجاوز المرض وعدم التفكير فيه. وذكر أن ما يضاعف المرض هو الارهاق البدني والذهني بسبب العجز عن توفير المستلزمات من أدوية وأغذية بديلة نظرا لتكلفتها العالية. تلك الآلام التي يعيشها الأشقاء الثلاثة في صمت قد لا يشعر بها الأصحاء. يشاهدهم الناس في الطريق فلا يحفلون بهم كل مشغول بأمره بما في ذلك الأقارب. وذكر سمير ان الناس لا يشعرون بآلامهم ولذلك فهم يشقون أشد الشقاء طلبا للمساعدة. ولعل ما أدخل البهجة على نفس سمير انه سيتمكن من زرع كلية يوم 19 سبتمبر المقبل. وقد يتساءل البعض كيف تحصل على التبرع. وتلك قصة أخرى من فصل معاناة الوالدين. فبعد أن أعدم الوالد محمد الحيلة والتفكير في الحصول على مساعدة لابنائه دعاه واجب الأبوة والعطف الى التبرع بإحدى كليتيه لابنه (سمير) بعد أن أكدت التحاليل انه يستطيع الحصول على تبرع من والده على عكس شقيقتيه وقد قال ذلك بعد أن سألناه عن سبب اختياره سمير من بين الأبناء فأجاب الوالد محمد «ليت لدي أكثر من كليتين لأهبهما الى أبنائي». قالها وهو يخفي عبرات فضحتها نبرة صوته قبل ان يؤكد حبه لأبنائه وتمسكه بمساعدتهم وبث أمل الحياة فيهم. أمنيات «نتمنى ان يأتي يوم ننقطع فيه عن التصفية»... «أدعو ا& ان أصبح انسانا عاديا يعمل ويتزوج»... «أرجو ان أتعافى»... رغبة في مستقبل افضل، حلم بيوم يتوقفون فيه عن «التصفية» ويعفون من الارهاق والمتاعب والحرمان. كل ذلك يمكن ان يتحقق لهؤلاء. كانت الجدة حبيبة تتابعنا بصمت لكن أمام نداءات أحفادها أكدت انها رغبت في التبرع بكليتها لكن الاطباء أكدوا انه لا يمكنها ذلك امام تقدمها في السن ومرضها المزمن. لابد لنا ان نؤكد ان هذه الحالة الاجتماعية حظيت بمتابعة من السلط الجهوية وليس ذلك بجديد عن المجتمع التونسي بمسؤوليه ومواطنيه وشيوع الحس التضامني والتكافل بين أفراده. والدا المرضى تمتعا ببعض المساعدات الاجتماعية من قبل السلط الجهوية بالقيروان من دفتر للعلاج المجاني الى منحة عائلية يحصل عليها الوالد كل ثلاثة أشهر (150 دينارا) كما يتلقى مساعدات عينية في كل مناسبة. وذكر الوالد محمد القيزاني انه وجد تجاوبا كبيرا من السلط المحلية والجهوية وقد وعدوه بمساعدته. من ذلك فقد تدخل المسؤولون لفائدته قصد توفير مسكن لائق له ولأبنائه في مركز معتمدية الوسلاتية الا ان بعد المنطقة عن مركز التصفية بالقيروان لن يعفي العائلة من المتاعب مما جعل الوالد يجدد طلبه بتوفير مسكن قريب من مركز التصفية حتى يتمكن أبناؤه من مباشرة حصص العلاج ويتمكن من رعايتهم. كما أكد الوالد ان مصاريف علاج أبنائه تتطلب أموالا باهظة لا يقوى على توفيرها أمام تكفّله بعلاج أبنائه الاربعة الذين يحتاجون الى عناية خاصة ومساعدة من الجميع بما فيهم الاقارب عسى أن تعود البسمة. ويتمسك الوالد بطلب الحصول على مسكن قريب من مركز التصفية بالقيروان متوجها بطلب المساعدة مباشرة الى رئيس الجمهورية الذي طالما أدخل البهجة على قلوب أبنائه مؤكدا مساندته له في مواصلة قيادته الحكيمة من اجل عزة تونس لأنه الوحيد القادر على ذلك.