يحضرني وأنا بين يدي هذا العيد شعراء وكُتّاب ومبدعون في أكثر من مكان يُعانون الغربة أو يرسفون في الأغلال أو يشكون الفاقة أو يغرقون في الصمت والإهمال والتهميش. إليهم أوجّه اليوم قلبي وخواطري وإليهم أتوجّه بالتحيّة شادًّا على أيديهم متمنّيًا لهم أجمل الأمنيات متحسّسًا في جسدي أثر الأنياب التي تتناهشهم. ولعلّهم ينظرون إلى حالهم بين الحين والآخر فيذكرون هذين البيتين: قَضِّ اللُبانَةَ لا أَبَا لكَ واذهَبِ / والْحَقْ بِأُسْرَتِكَ الكِرَامِ الغُيَّب / ذَهَبَ الذين يُعاشُ في أكنافِهمْ / وبَقِيت في خَلَفٍ كجِلْدِ الأجْرَبِ. لَمّا قَدِمَ زياد العراق قال: مَنْ على حَرَسِكُم؟ قالوا: بلج. قال: إنَّمَا يُحْتَرَسُ من مِثْلِ بَلَج فكيف يكون حارسًا؟ خبرٌ من أخبار العقد الفريد لابن عبد ربّه، يعاودني وأعاوده كلّما رأيتُ حارسًا من مِثْلِهِ يُحترسُ في ساحاتنا الثقافيّة العربيّة، التي بات واضحًا اليوم أنّ للشعراء والكتّاب والمبدعين فيها، من بينهم، من هو أقسى عليهم من أيّ رقيب أو خصم بعيد أو قريب. ولعلّ أشدّ ما يحزّ في النفس أن يعاني المبدعون ما يُعانون، بينما أقلام بعض زملائهم خفيفة نشطة سريعة منضبطة إذا تعلّق الأمر بغمز أو لمز يزيدهم معاناة، رصينة عاقلة ثقيلة متثاقلة كلّما تعلّق الأمر بنصرتهم أو إنصافهم أو الدفاع عنهم...وأفضل هذه الأقلام حالاً مَن نظرَ صاحبُه من تحت متربّصًا يستطلع اتّجاه الريح ناسيًا أنّه يُؤكل مع الثور الأبيض... إلى المبدعين المكلومين أرنو هذا اليوم وقد تهيّأ الناس للعيد محاولين اختطاف فرصة للفرح من بين أنياب الزمن الصعب المدجّج بالمجهول. لقد تصارع الشعراء في كلّ زمان ومكان لكنّهم تحابّوا من خلف صراعهم، ولم يفتهم ما في ذلك من لعبيّة هي من صميم لعبيّة الشعر التي أخذوها بجديّة تامّة. أي أنّهم قدّروها حقّ قدرها ولم يفتهم أنّها لا تعني السخف بل المسافة التي من حقّ الشاعر أن يتّخذها من الحياة كي يسألها ويكتب عنها ويجعلها ممكنة...ولولا رحابة الصدر وروح اللعب وحبّ الشعراء بعضهم بعضًا لما وصلَنا المعرّي، وهو الذي قال فيه الثعالبي إنّه كان يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كلّ فنّ من الهزل والجدّ، ولَمَا نجت رسالة الغفران من الحرق والمصادرة، ولا شكّ أنّه لو كتبها اليوم لانبرى له ما لا يُحصى عدده من محترفي النميمة والتحطيم المُسَسْتم يشكّكون في قيمته ويؤلّبون عليه الخاصّة والعامّة وينكّلون به تنكيلاً، بعد أن أصبح أكل اللحم الآدميّ حرفةً رائجةً في عدد من الصحف والفضائيّات، متاحة لذوي الأرواح المتجهّمة النهمة إلى العدوان والاستبداد، التي يبدو أنّ أصحابها لم يحبّوا يومًا ولم يعرفوا شأنًا من شؤون الطفولة التي يقوم عليها الإبداع ويكبر بها المبدعون. ولعلّ شيخ المعرّة لم يقصد غير هذا الرهط حين قال ذات يوم وقد ضاق بسجّاني عصره: أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البُغضاء... إليهم ألتفت أيضًا هذا اليوم، متمنّيًا عليهم أن يكفّوا عنّا شرّهم إن لم يكن من مطمع في خيرهم، فقد حسدونا على ما لا نُحسد عليه وأثخنونا غيرةً ونميمة وانتقاصًا وتشويهًا ولم يبق أمامهم إلاّ أن يجرّبوا جرعة من الحبّ لعلّهم يشفون.